يقدم لكم موقع إقرأ في هذا المقال خطبة محفلية عن القناعة ، و خطبة عن القناعة ملتقى الخطباء ، و خطبة عن القناعة ، و القناعة شبكة الألوكة ، القناعة كنز ليست مجرد كلمة تقال ولكن القناعة هي كنز السعادة لأن الشخص القنوع دائماً يشعر بالرضا بما يقسمه الله له وبالتالي هذا يشعره بالسعادة التي هي الكنز الحقيقي. فيما يلي سنعرض لكم خطبة محفلية عن القناعة.

خطبة محفلية عن القناعة

خطبة محفلية عن القناعة
خطبة محفلية عن القناعة

خطبة محفلية عن القناعة

خطبة محفلية عن القناعة ، الخطبة الأولى:

خطبة محفلية عن القناعة ، إن المتأمل لأحوال كثيرٍ من الناس في هذه الدنيا يرى العجب العجاب، يرى الهموم، يرى الغموم، يرى الأحزان، يرى المشاكل، تجد الواحد منهم مستعدًا أن يقاتل حتى أقرب الناس إليه، من أجل ماذا؟! من أجل هذه الدنيا، من أجل الأموال، ومن أجل التجارات، ومن أجل الأراضي. خطبة محفلية عن القناعة .

إن المتأمل لأحوال كثيرٍ من الناس لا يراهم يعيشون في هذه الدنيا راضين بقضاء الله وقدره، بل يزدادون تسخطًا على قضاء الله وقدره، لا يكفيهم طعامٌ يشبعهم، ولا يرضيهم لباسٌ يسترهم، ولا مساكن تكنهم، ولا مراكب تحملهم، بل هم دائمًا في سخطٍ على الله -عزَّ وجل-، يصبح أحدهم ويمسي ساخطًا على ربه، يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم، لا يقنع بقليلٍ ولا بكثير؛ كالذي يأكل ولا يشبع، لِمَ؟! لأنه طامحٌ ببصره دائمًا إلى من هو فوقه، إذا كان يسكن بيتًا نظر إلى من يسكن قصرًا، إذا كان يركب دبابًا نظر إلى من يركب سيارة، إذا كان يركب سيارة نظر إلى من يركب طائرة، وهكذا لا يهنأ له عيش، إلا إذا صار أحسن الناس في كل شيء، وذلك مُحال، إذًا ما الحل؟! الحلّ هو ما أرشدنا إليه رسول الله من القناعة، وأمرنا بها، وعلّمنا إياها قولاً وفعلاً. خطبة محفلية عن القناعة .

القناعة أن ترضى بما قسم الله لك من العيش، فتكون رابط الجأش، مطمئن القلب، ساكن الفؤاد، رضيَّ النفس، تعلم أن الأرزاق مكتوبةٌ مقسومةٌ، لا تزيد ولا تنقص، تضرب في أرض الله -عزَّ وجل-، تبتغي من فضل الله دون أن تكون مقبلاً على الدنيا بكليتك، تعلم أن الله -جل جلاله- أبت حكمته أن يجعل الكمال لأيّ أحدٍ كائنًا من كان، كلٌّ منَّا محتاجٌ إلى غيره، كلٌّ منَّا دون غيره في باب من الأبواب، في سببٍ من الأسباب، هكذا اقتضت حكمةُ الله -سبحانه وتعالى- وهو الحكيم الخبير.خطبة محفلية عن القناعة .

أن تعلم -يا عبد الله- أن الله يأمر بالقناعة، يأمرك -أيها المسلم- أن تكون قنوعًا: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6]، أن يقرأ المسلم في القرآن أن الله -سبحانه وتعالى- مدح أهل القناعة: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]، (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273]، هؤلاء هم أهل القناعة، ويقول الله -عزَّ وجل-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].

أتدرون ما الحياة الطيبة؟! قال عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب والحسن البصري -رضي الله عنهم-: “الحياة الطيبة هي القناعة”؛ أن تقنع بما رزقك الله من مال، أن تقنع بما رزقك الله من زوجة، أن تقنع بما رزقك الله من ذرِّيَّة، بما آتاك الله -سبحانه وتعالى- من مسكنٍ أو مركبٍ أو ملبسٍ أو مطعم، هذه هي القناعة التي يأمرنا بها ديننا.

نعم؛ القنوع عزيز، القنوع هو أعزُّ الناس عند الناس؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: “شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس”، هذا المستغني عن الناس الذي لا يمدُّ يده، ولا يطمع فيما عندهم، هذا هو العزيز حقًّا، هذا الذي رضي بما آتاه الله وسأل الله المزيد من فضله، رسول الله  بشَّر أهل القناعة بقوله: “طوبى لمن أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنعه الله”، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إنّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضًا في الناس، ولا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافًا، فصبر على ذلك”. خطبة محفلية عن القناعة .

هذا المؤمن وليٌّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان خفيف الحمل، خفيف الظهر، ما استكثر من الدنيا، رُزق كفافًا، فصبر على هذا العيش، وفي الوقت نفسه هو في حظٍّ من الصلاة، عَبَدَ الله -عزَّ وجل-، وأطاعه في السر، هذا وليٌّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم الناس قناعةً في هذه الدنيا، كان دعاؤه -عليه الصلاة والسلام-: “اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا”، وكان يقول: “اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير”. ولهذا كان أوسع الناس صدرًا، وأطيب الناس عيشًا، وأسخى الناس يدًا، وأرضَى الناس قلبًا، كان يمرُّ عليه الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت أزواجه نار، وما لهم من طعامٍ إلا الأسودان: التمر والماء، كان يبيت الليالي طاويًا، لا يجد عشاءً، يتقلّب على فراشه من شدة الجوع، كانت حياته حياة الزهد، زهدٌ في طعامه، زهدٌ في ثيابه، زهدٌ في فراشه، يبيت -عليه الصلاة والسلام- على حصيرٍ قد أثَّر على ظهره وعلى جنبه من خشونته ومن شدة ملمسه، كانت الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، ما كان يعجبه من الدنيا إلا مؤمنٌ تقيّ، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، بل وربَّى أصحابه -رضي الله عنهم- على القناعة، فلقد أوصى -صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة -رضي الله عنه- قال له: “يا أبا هريرة: كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وارضَ للناس ما ترضاه لنفسك تكن مسلمًا”. خطبة محفلية عن القناعة.

يبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ القناعة في الرضا بما قسم الله -عزَّ وجل-، وشكره على ما آتى عبده من النعم.

نبينا -عليه الصلاة والسلام- هو الذي ربَّى أصحابه وربَّى الأمة كلها على أنه ما طلعت شمسٌ إلا وعلى جنبتيها ملكان يُسمعان أهلَ الأرض إلا الثقلين يقولان: أيها الناس: هلمُّوا إلى ربكم؛ فإنَّ ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى، وما غربت شمسٌ إلا وعلى جنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجِّل لمنفقٍ خلفًا، اللهم عجِّل لممسكٍ تلفًا. ولقد حثَّ -صلى الله عليه وسلم- أمته على طلب القناعة بقوله: “لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو أسفل منكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم”.

هذه وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذًا -فيا معاشر المسلمين- من أراد السعادة فعليه بالقناعة.

خطبة محفلية عن القناعة ، الخطبة الثانية:

أيها المسلمون، عباد الله: إن العبرة بالقلوب سعةً وضيقًا، عسرًا ويسرًا، انشراحًا وانقباضًا، غنى وفقرًا: “ليس الغنى عن كثرة العرَض، وإنما الغنى غنى النفس”، فرُبَّ إنسان يكون ماله كثيرًا ويساره كبيرًا لكنه -والعياذ بالله- جشعٌ طمَّاعٌ جمَّاعٌ منَّاعٌ، كالذي يأكل ولا يشبع، ورُبَّ إنسان آخر يكون رزقه كفافًا يكون فقيرًا قليل العيش لكنه مع ذلك قد جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، هذا هو الغنى: “ليس الغنى عن كثرة العرَض، وإنما الغنى غنى النفس”.

لكن لنعلم أنه لا علاقة بين القناعة والفقر، ولا علاقة بين الغنى والطمع، فرُبَّ إنسان يكون غنيًا موسرًا قد فتح الله له أبواب الرزق، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومع ذلك تجده غنيًا في قلبه، مقيمًا للصلاة، يعرف حق الله في ماله، إن أُعطي شكر، وان مُنعَ صبر، إن ربح مالاً أدَّى حق الله فيه، وإن خسر مالاً قنع بما قضى الله -عزَّ وجل- وقدَّر. وربَّ إنسان فقيرٍ معدَمٍ، يصبح ويمسي وهو ساخطٌ على الله -عزَّ وجل-، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

القناعة -أيها المسلم- لا تمنعك أن تضرب في مناكب الأرض، لا تمنعك أن تبتغي من فضل الله، لا تمنعك من الأخذ بالأسباب وطرق الأبواب والرغبة فيما عند الله، القناعة لا تمنعك من تزويد العمل، لا تمنعك من أن تبتغي ما عند الله من رزق، لا تمنعك القناعة من هذا كله، لكن الممنوع والمحظور والحرام أن يغشَّ التاجر في تجارته، وأن ينافق المسؤول في منصبه، وأن يتهرب العامل من مهنته، وأن يرتشي الموظف في وظيفته، هذا الذي يتعارض مع القناعة، كن راضيًا بالحال الذي أنت فيه، وابتغ من فضل الله -عزَّ وجل-.

ولو تأمّلنا في حياة الناس، في أحوالهم، في كلامهم، تجدون الكثيرين ممن فقدوا القناعة -والعياذ بالله- لا يبالون بأن يأكلوا الربا، لا يبالون بأن يمنعوا الناس حقوقهم، لا يبالون بأن يأكلوا أموالهم بالباطل، كالذي يأكل ولا يشبع، لا يملأ فاه إلا التراب، هذا المسكين قد حُرِم الحياة الطيبة.

نعم؛ لما غابت القناعة من حياة كثيرٍ من الناس أصبحوا لا يهنأ لهم عيشٌ، ولا تطيب لهم حياة، كما قال ابن الجوزي -رحمه الله-: “من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه”، يكون طائشًا، يخبط خبط عشواء، يضرب ذات اليمين وذات الشمال، لا يدري أين يذهب، فغاية همِّه ومبلغ علمه أن يجمع هذه الدنيا من حلالها وحرامها، ثمَّ يسأله الله -سبحانه وتعالى- عن كل ريالٍ: من أين اكتسبه؟! وفيمَ أنفقه؟!

فيا أيها المسلمون، عباد الله: إن القناعة دواءٌ لكثيرٍ من الأدواء التي عجز الناس عن مداواتها، بالقناعة تكون حبيبًا إلى الله، بالقناعة تكون حبيبًا إلى الناس: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس”.

لما كتب بعض خلفاء بني أمية إلى ابن أبي حازم -رحمه الله- يعزم إليه أن يرفع إليه حوائجه، أن يكتب إليه بما عليه من ديون، بما يحتاج إليه من متاع، فكتب إليه ابن أبي حازمٍ -رحمه الله تعالى-: “قد رفعتُ حاجتي إلى مولاي، فما أعطاني شكرت، وما منعني صبرت”.

نعم؛ هذا هو العلم، والله لو أن العالم كلَّه عاش في قناعة لما كان التجسّس ولا التحسّس، ولما كان الحسد ولا الكمد، ولا السرقة ولا القتل، ولا أيّ جريمة إلا ما شاء الله تعالى، ولكن لما غاب هذا الخلق ولّد الكثير من الأضغان والشحناء والكبرياء.

هي القناعة فالزمها تعش ملكًا *** لو لَم يكن لك إلا راحة البـدن

فأين من مَلَكَ الدنيا بأجمعهـا *** هل راح منها بغير القطن والكفن

فيا معاشر المسلمين: علينا أن نحرص أشد الحرص على القناعة، وأن نجاهد أنفسنا على طلبها كما حثَّنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وكما ربَّى أصحابه على ذلك.

اللهم إنا نسألك الحياة الطيبة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل قناعتنا في قلوبنا، اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا، واجعلها عونًا على طاعتك يا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم اغفر ذنوبنا، وأصلح أعمالنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وخصنا بمزيدٍ من الرحمات يا رب العالمين… خطبة محفلية عن القناعة .

خطبة عن القناعة ملتقى الخطباء

خطبة محفلية عن القناعة ، الخطبة الأولى:

مع خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وأدب من آدابه العظيمة؛ إذا تخلق به العبد اطمأن قلبُه، وهدأت نفسُه، ونعِمَ بالراحة باله، وسلمت من الحرام جوارحُه. مع خلق من أخلاق الأنبياء، وسمة من سمات الأتقياء، وصفة من صفات أهل الفوز والفلاح، مع خلق القناعة.

ما أحوجنا إلى القناعة، وما أحوجنا إلى الرضا بما قسم الله، في زمن تكالب فيه كثير من الناس على الدنيا، وانغمسوا في شهواتها، في زمن كثر فيه التسخط والتذمر والتشكي، وضعُف فيه الرضا بما قسَم وقدر ربّ العالمين -سبحانه-.

فهل فشا الجشع والطمع إلا عندما غابت القناعة؟ وهل اكتوت المجتمعات بنيران الحسد والكراهية والبغضاء إلا بسبب فقدان القناعة؟ وهل كثرت الصراعات والنزاعات والسرقات إلا بسبب غياب القناعة في المجتمع؟

والقناعة هي الرضا بما أعطاه الله، وكتبه وقسمه.

القناعة استغناء بالموجود، وترك للتشوف إلى المفقود.

القناعة استغناء بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث.

القناعة أن يكتفي المرء بما يملك، ولا يطمع فيما لا يملك.

القناعة امتلاء القلب بالرضا، والبعد عن التسخّط والشكوى.

فليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.

كما أن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيرا، فالغني أيضا في حاجة إلى قناعة، كما أن الفقير في حاجة إلى قناعة؛ وقناعة الغني أن يكون راضيا شاكرا، لا جاحدا ظالما، قناعته أن لا تَلجَ أمواله إلى قلبه، حتى يصبح عبدا لها. قناعته أن لا يستعلي بماله على الفقراء، وأن لا يوظف ماله في الاستيلاء على ممتلكات الآخرين والاعتداء على حقوقهم.

فكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا يغشّ في تجارته، ولا يمنَع أُجَراءَهُ حقوقَهم، ولا يذلّ نفسه من أجل مال أو جاه، ولا يمنع زكاة ماله؛ إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.

وقناعة الفقير أن يكون راضيا بقسمة الله، مستسلما لأمر الله، لا ساخطا ولا شاكيا، ولا جزعا من حالِه، ولا غاضبا على رازقه. قناعته أن لا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، قناعته أن يكون عفيفا متعففا، وأن لا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش.

فكم من مستور يجد كفافًا؛ قد ملأ الطمع قلبه، ولم يُرْضِه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضِب على رازقه، وبثّ شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم ليُغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهمًا ولا فلسًا.

والقناعة شفاء ودواء؛ شفاء من داء الجشع والطمع، شفاء من الهموم والأحزان، شفاء من الكراهية والحسد، شفاء من نهب الأموال والاعتداء على الممتلكات.

فمَن عُدِم القناعة ازداد تسخّطه وقلقه، وحُرِمَ من الرضا بما رزقه الله وآتاه. وحينئذ لا يُرضيه طعام يُشبعه، ولا لباس يواريه، ولا مركب يحمله، ولا مسكن يؤويه: “ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”، يبحث عن المال في كل مكان، يخلط بين الحلال والحرام، بل ربما كان ماله كله من الحرام لأنه لا يقتنع بما هو حلال.

ولقد حث النبي -صلى الله عليه وسلمَ- على القناعة، وبيّن أنها طريق إلى السعادة والفلاح، فقال عليه الصلاة والسلام: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ” (أخرجه مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ)، وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا” (أخرجه الترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني).

فلماذا التسخط؟ ولماذا التذمر؟ ولماذا التشكي؟ وأنت آمِن في نفسك ومالك وأهلك، معافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، بل قوتُ عامٍ أو يزيد؟

لكنه الطمع الذي استولى على القلوب، فلم تعد تقنع لا بالقليل ولا بالكثير. وهذا ما حذرنا منه نبينا المصطفى -عليه الصلاة والسلام-؛ كما في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: “لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب”.

قال أبو حاتم -رحمه الله-: “مِنْ أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها خطراً؛ القناعة. وليس شيءٌ أروحَ للبدن من الرضا بالقضاء والثقة بالقَسْم، ولو لم يكن في القناعة خصلة تحمد إلا الراحة وعدم الدخول في مواضع السوء لِطلب الفَضلِ، لكان الواجبُ على العاقل ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال”، وقال أيضاً: “القناعة تكون بالقلب؛ فمن غني قلبه غنيت يداه، ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه، ومن قنع لم يتسخطْ وعاش آمنا مطمئنا، ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبته”.

وللقناعة طرق ووسائل وأسباب تعين على اكتسابها، ومن ذلك:

1- الإيمان الجازم بأن الله -تعالى- هو الرزاق، كتب الأرزاق قبل أن يخلقَ العِباد، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها. فهل مِن أحد يرزق العبادَ غيرُه سبحانه؟ وهو القائل: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58]، روى ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: “أيها الناس اتقوا الله وأجْمِلوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم” فلماذا الطمع؟ ولماذا الجشع؟ يقول عامر بن عبد قيس -رضي الله عنه-: “أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن مساء لم أبال على ما أمسي، وإذا تلوتهن صباحًا لم أبال على ما أصبح: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر: 35]، وقوله تعالى: (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [يونس: 107]، وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]، وقوله تعالى: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7].

2- تذكّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوال وأن متاعها إلى فناء: ليعلمِ العاقل أنّ كل حال إلى زوال، فلا يفرح غنيّ حتى يطغى ويَبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم، ولا غنى يدوم! وكم من رجال نشأوا على فرش من حرير، وشربوا بكؤوس من ذهب، وورثوا كنوزا من المال، وأذلوا أعناق الرجال، واستعبدوا الأحرار من الرجال والنساء! فما ماتوا حتى اشتهَوْا فراشًا خَشِنا يقي الجنب عَضّ الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع! وآخرون قاسوا المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام! فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت لهم الخيرات، وصاروا من سراة الناس! وسيسوي الموت بين الأحياء جميعا: الغني والفقير؛ فدُود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير، ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه.

فما أجمل القناعة، وما أسعد أهلها! لو تحلى بها الناس لزالت منهم الضغائن والأحقاد، وحفت بينهم الألفة والمودة؛ فإنّ ما يقع فيه الناس من خلاف وشقاق سببه الدنيا والتنافس عليها، سببه ضعف القناعة والرضا في القلوب، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حينما قال: “والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبْسَط الدنيا عليكم؛ كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم”، فهل من مدّكر؟ وهل من معتبر؟ يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده.

“ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.

3- أن ينظر المرء إلى من هو أقل منه في المال والمنصب والجاه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه في ذلك، فقد علمنا ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- فيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: “انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ”، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: “عَلَيْكُمْ”، وفي لفظ لابن حبان في صحيحه: “إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ”.

وليس في الدنيا أحد لا يجد مَن هو أفضل منه في شيء، ولا مَن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا ففي الناس من هو أشد منك مرضا. وإن كنت ضعيفا ففي الناس من هو أشد منك ضعفا. فلماذا تَرفعُ رأسَك لتنظرَ إلى مَن هو فوقك، ولا تخفِضُه لتُبصِرَ من هو تحتك؟!

4- تربية النفس على الاقتصاد في الإنفاق، وعدم الإسراف والتبذير: فقد قال سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، وقال عز وجل في صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].

والنّفس راغبة إذا رغّبتها *** وإذا تردّ إلى قليل تقنع

5- الاعتقاد بأن الله -سبحانه- جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمة يعلمها: فلله -سبحانه وتعالى- حكمة في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والمصالح، ويخدم بعضهم بعضًا، قال الله -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32]، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) [الأنعام: 165].

الناس للناس من بدو ومن حضر *** بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدم

فالذي يعترض على قسمة الله معترض على علمه وحكمته، وهذا جهل وضلال، فإن الذي خلق الخلائق هو أعلم بمصالحهم ومنافعهم، وقد قال سبحانه: (وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].

6- العلم بأن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان: فالفقير ممتحن بفقره وحاجته، والغني ممتحن بغناه وثروته، وكل منهما مسؤول وموقوف بين يدي الله -عز وجل-، قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 – 157]، وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: “عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُّخط”. خطبة محفلية عن القناعة.

وكما أن الفقر ابتلاء، فكذلك الغنى ابتلاء وامتحان؛ قال تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال: 28]، وقال سبحانه: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]، وقال نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه”.

ومن خاصِّيّة المؤمن: أنه صابر في البأساء والضراء، شاكر في السراء والرخاء. وهذا ما نبه إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حين قال: “عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” (رواه مسلم من حديث صهيب).

1- أعظم نموذج في القناعة والرضا: الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ-، فهو القدوة والأسوة في كل خلق جميل، فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قنوعاً زاهداً راضيا صابرا محتسبا، كان أبعدَ الناس عن ملذات الدنيا، وأشدهم رغبة في الآخرة. وكيف لا يكون كذلك ورب العالمين -سبحانه- يخاطبه بقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 131]، وقد كان صلى الله عليه وسلمَ يستعيذ بالله -تعالى- من نفس طمّاعة لا تشبع، فكان يقول في دعائه: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع” (أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وأبو داود من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم مع زيادة من حديث زيد بن أرقم).

فيا مَن تشكو من توالي الهموم والأحزان، من قلة المال، من الفقر والحاجة: كن راضيا صابرا محتسبا قنوعا، ولتكن لك في رسول الله أسوة حسنة وقدوة طيبة؛ انظر إلى طعامه، وانظر إلى فراشه ولباسه، وانظر إلى مسكنه، لتدرك أنك في نعم كثيرة وخيرات وافرة.

فأما طعامه ومأكله صلى الله عليه وسلمَ، فغاية في القناعة والبساطة؛ ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لعروة بن الزبير: ابنَ أختي؛ “إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- نار”، فقلت يا خالة: ما كان يُعِيشُكم؟ قالت: “الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- من ألبانهم، فيَسقينا”، وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قالت: “لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين”.

وأما فراشه صلى الله عليه وسلمَ فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت: “كان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- من أدَم، وحشوه من ليف” (“أدم” جلد مدبوغ “ليف” قشر النخيل).

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: “ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها” (أخرجه الترمذي وقال: “هذا حديث حسن صحيح”).

وروى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: “دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وهو مضطجعٌ على حصيرٍ، فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحو الصاع، ومثلها قرظًا في ناحية الغرفة، وإذا أفيقٌ معلقٌ، قال: فابتدرت عيناي، قال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، وصفوته، وهذه خزانتك، فقال: يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟، قلت: بلى” (“القَرَظ” هو ورَق السَّلَم تدبغ به الجلود، “أفيق” جلد لم يدبغ).

وأما مسكنه صلى الله عليه وسلمَ فبيوت من طين، سقفُها من جريد النخل، قصيرة متقاربة؛ روى البخاري في الأدب المفرد عن محمد بن أبي فديك عن محمد بن هلال: أنه رأى حُجَر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- من جريد، مستورة بمسوح الشعر. فسألته عن بيت عائشة، فقال: كان بابه من وجهة الشام. فقلت: مصراعا كان أو مصراعين؟ قال: كان بابا واحدا. قلت: مِن أيّ شيء كان؟ قال: من عرعر أو ساج”.

وروى البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشاة من خارج بمسوح الشعر. وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ست أو سبع أذرع. وأحزر البيت الداخل عشر أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع نحو ذلك، ووقفت عند باب عائشة فإذا هو مستقبل المغرب.

وروى البخاري في الأدب المفرد عن الحسن البصري قال: “كنتُ أدخل بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سُقُفَها بيدِي”.

2- قناعة آل محمد -صلى الله عليه وسلمَ-: لقد ربى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا، حينما خيّرهن بين الإمساك على ذلك، أو الفراق والتمتع بالدنيا؛ كما قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28 – 29].

فاخترن رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة، وصبرْن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال، طمعًا في الأجر العظيم من الله الكريم -سبحانه-، روى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “ما أكل آل محمد -صلى الله عليه وسلمَ- أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر”، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: “ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلمَ- منذ قدم المدينة مِن طعام بُرّ ثلاث ليال تِباعا، حتى قبض”.

3- قناعة السلف الصالح: وعلى القناعة أيضا ربى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أصحابه، فكانوا أصحاب قناعة ورضا، فما كانوا يتنافسون على الدنيا، ولا يتنازعون حولها، وإنما كانوا يتنافسون في الخيرات والطاعات. تركوا ديارهم وأموالهم وأراضيهم. في مكة وما حولها، ليهاجروا إلى الله ورسوله إلى المدينة النبوية حيث لا مال لهم هناك ولا أهل ولا متاع، فكان منهم من يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد كان في مكة يأكل أشهى الطعام وألذ الطعام. وكان منهم من لا يجد من اللباس إلا ما يستر عورته، وقد كان في مكة يلبس أفخر الثياب وأجملها، فأي قناعة أعظم من هذه؟

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده، كراهية أن ترى عورته”.

وروى ابن ماجة في سننه عن أنس قال: “اشتكى سلمان فعاده سعد فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحِبتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-؟ أليس أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين؛ ما أبكي ضنا للدنيا ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- عهد إلي عهدا، فما أراني إلا قد تعديت. قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إلي أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت. وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همّك إذا هممت، قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهما من نفقة كانت عنده” (والحديث صححه الألباني في صحيح ابن ماجه).

وللقناعة فوائد كثيرة ونتائج جليلة، تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة، ومن تلك الفوائد:

1- القناعة دليل على قوة الإيمان بالله -سبحانه وتعالى-، دليل على صدق الثقة بالله والرضا بما قدّر وقَسَم، دليل على قوة اليقين بما عنده سبحانه وتعالى، قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: “إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثقَ منك بما في يد الله -عز وجل-“.

2- بالقناعة يتحقق الشكر: فمن قنع برزقه شكر الله -تعالى- عليه، ومن احتقر رزقه قصَّر في شكر ربه -سبحانه-، وربما جزع وتسخط -والعياذ بالله- ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: “كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس” (أخرجه ابن ماجة في سننه من حديث أبي هريرة).

3- القناعة سبيل إلى الحياة الطيبة: فيا من تريد الحياة الطيبة الهادئة المطمئنة؛ عليك بالقناعة، فإن الحياة الطيبة في القناعة، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وقد ورد عن علي وابن عباس والحسن -رضي الله عنهم- أنهم قالوا: “الحياة الطيبة هي القناعة”، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: “من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه”.

في القناعة حياة طيبة؛ لأنها تريح الإنسان من تعب الركض وراء الدنيا وزينتها، وتريح النفس من الهم والحزن والجزع على ما فاته منها؛ لأنه يعلم يقينا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقد قال ربنا -سبحانه-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22 – 23].

الجوع يطرد بالرغيف اليابس *** فعلام تكثر حسرتي ووساوسي

وفي القناعة حياة طيبة؛ لأنها تطهّر القلبَ وتريحه من كثير من الأمراض التي تصيبه بسبب التنافس على الدنيا والتنازع عليها، كالحسد، والحقد، والكراهية والبغضاء؛ كما أنها وقاية للعبد من كثير من الذنوب والمعاصي التي تفتك بالمجتمع وتقوض بنيانه وتمزق وحدته؛ كالغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والقتل، والسرقة وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة التي غالبا ما يكون الحامل على الوقوع فيها حب الدنيا واستجلابها والحرص عليها، قال بعض الحكماء: “وجدت أطول الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع”.

أرفه ببال فتى أمسى على ثقة *** أن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه *** والوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتها *** لم يلق في دهره شيئا يؤرقه

4- في القناعة شفاء من داء الطمع والتسوّل: فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يُعَلم صحابته القناعة والتعفف عن السؤال، يعلمهم إذا سألوا أن يسألوا الله، وإذا استعانوا أن يستعينوا بالله، يعلمهم أن لا يلجؤوا بالسؤال والطلب إلا إلى خالقهم ورازقهم -سبحانه-؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يوما، فقال: “يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف” (أخرجه الترمذي وقال: “هذا حديث حسن صحيح”).

وفي الصحيحين عن حَكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: “يا حَكيم، إن هذا المال خَضِرَة حُلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى”، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يدعو حكيما إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر -رضي الله عنه- دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حتى توفي”، “خَضِرة حُلوة” شبهه بالرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة فإن الأخضر مرغوب فيه بالمقارنة مع اليابس، والحلو مرغوب فيه بالمقارنة مع الحامض، “بسخاوة نفس” أي بغير شرَه ولا إلحاح في السؤال “بإشراف نفس” أي بطمع أو حرص أو تطلع.

وفي صحيح مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أسأله فيها، فقال: “أقِم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها” قال: ثم قال: “يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سدادا من عيش-. ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه؛ لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سدادا من عيش-، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا”، “الحَمَالَةُ” بفتح الحاءِ: أنْ يَقَعَ قِتَالٌ وَنَحْوُهُ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ، فَيُصْلِحُ إنْسَانٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَالٍ يَتَحَمَّلُهُ وَيَلْتَزِمُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَ “الجَائحةُ” الآفَةُ تُصيبُ مَالَ الإنْسَانِ، وَ “القوَامُ” بكسر القاف وفتحهَا: هُوَ مَا يَقُومُ بِهِ أمْرُ الإنسَان مِنْ مَال ونحوِهِ، وَ “السّدَادُ” بكسر السين، مَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْمَعْوِزِ وَيَكْفِيهِ، وَ “الفَاقَةُ” الفَقْرُ، وَ “الحِجَا” العَقْلُ.

فيا من يطلب من الناس أموالهم ليُكثِر ماله: اعلم أن ما تأخذه من أموال الناس جمرٌ ستذوق حرارته في الآخرة إن لم تتب إلى ربك سبحانه؛ ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: “من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر”.

ونقل الصخر من تلك الجبال *** أخف علي من منن الرجال

يقول الناس كسب فيه عار *** فقلت العار في ذل السؤال

5- القناعة طريق إلى الفلاح والسعادة في الدارين؛ فقد أخرج الإمام أحمد الترمذي وابن حبان والحاكم وصححه عن فضالة بن عبيد: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: “طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع”، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: “قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه”، وأخرج أبو داود في سننه عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: “من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا، وأتكفل له بالجنة؟”، فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا.

هي القناعة لا تبغي بها بدلا *** فيها النعيم وفيها راحة البدن

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير القطن والكفن

6- حقيقة الغنى في القناعة: وقد بين النبي -عليه الصلاة والسلام- أن حقيقة الغنى غنى النفس، فقال صلى الله عليه وسلمَ: “ليس الغِنَى عن كثرة العرَض، ولكن الغِنى غِنى النفس” (متفق عليه من حديث أبي هريرة) أي أن الغنى الحقيقي الذي يملأ نفس الإنسان ويكفه عن حاجة غيره، ليس هو كثرة العرض، أي حطام الدنيا ومتاعها. وإنما حقيقة الغِنى أن تكون نفس العبد هادئة مطمئنة قانعة راضية، حتى ولو كان صاحبها لا يملك من حطام الدنيا شيئا.

وعن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: “يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟” قلت: نعم يا رسول الله، قال: “فترى قلة المال هو الفقر؟” قلت: نعم يا رسول الله، قال: “إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب” ثم سألني عن رجل من قريش، فقال: “هل تعرف فلانا”؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: “فكيف تَراه وتُراه؟” قلت: إذا سأل أعطي، وإذا حضر أدخل، ثم سألني عن رجل من أهل الصفة، فقال: “هل تعرف فلانا؟” قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله، قال: “فما زال يحليه وينعته حتى عرفته”، فقلت: قد عرفته يا رسول الله، قال: “فكيف تراه أو تراه؟” قلت: رجل مسكين من أهل الصفة، فقال: “هو خير مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ مِنَ الْآخَرِ”، قلت: يا رسول الله، أفلا يُعطى من بعض ما يُعطى الآخر؟، فقال: “إذا أعطي خيرا فهو أهله، وإن صُرف عنه فقد أعطي حَسنة” (أخرجه ابن حبان والنسائي والحاكم وصححه).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: “من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعْمَل بهن، أو يُعَلم مَن يعمَل بهن”؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدّ خمسا، وقال: “اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب” (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والطبراني، وحسنه الألباني).

وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه، ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد، لا يجد طعما للراحة ولا لذة للنوم! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غدِه! فالسرّ في القلوب: رضًا وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليس في الفقر والغنى، قال سعد بن أبي وقاص لابنه: “يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد؛ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر”، ولما قيل لأبي حازم -رحمه الله-: “ما مالُك؟” قال: “لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس”.

7- العز في القناعة، والذل في الطمع: فصاحب القناعة عزيز بين الناس، لاستغنائه عنهم، لعدم طمعه فيما في أيديهم، بينما الطماع يُذِل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئتَ فإنكَ ميّت، وأحبِب مَن أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّهُ استغناؤه عن الناس” (رواه الحاكم وصححه، والطبراني والبيهقي، وصححه الألباني).

صاحب القناعة لا يذل نفسه إلا لله، ولا يعلق قلبه إلا بالله، ولا يطمع إلا فيما عند الله، روى البخاري في صحيحه عن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: “لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”.

كان محمد بن واسع -رحمه اللّه تعالى- يَبُلّ الخبز اليابس بالماء ويأكله، ويقول: “من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد”.

صاحب القناعة محبوب عند الله وعند الناس: فعن سهل بن سعد الساعدي قال: أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- رجلٌ فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك” (أخرجه الحاكم وابن ماجة والطبراني، وصححه الألباني)، قال الحسن -رحمه الله تعالى-: “لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يُكرِمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفّوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك”، قال أعرابي لأهل البصرة: “من سيد أهل هذه القرية؟” قالوا: “الحسن”، قال: “بم سادهم؟” قالوا: “احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم”.

واقنَعْ تَجدْ غُنْيَةً عن كل مَسْألَةٍ *** فَفِي القَنَاعَةِ عِزٌّ غَيْرُ مُرْتَحِلِ

واطْلُبْ مِنَ الله واتْرُكْ مَنْ سِوَاهُ تَجدْ *** مَا تَبْتَغِيهِ بِلا مَنٍّ وَلاَ بَدَلِ

فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الرزق مقسومٌ، ولن يعدو المرء ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القُنوع سعةً وبلغةً، وكفاية وراحة، وما ترونه من متاع الدنيا ذاهبٌ وزائل، وما مضى كأن لم يكن، وكل ما هو آتٍ قريبٌ: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].

أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا القناعة بما رزقنا، وأن يجعل حسابنا يسيرا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا، إنه سميع مجيب. والحمد للّه رب العالمين.

قد يهمك:

خطبة عن القناعة

خطبة محفلية عن القناعة ، إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل لله فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ولي الصالحين، وسيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70) . أما بعد:

فإن القناعة تكون بالقلب فمن غنيَ قلبه غنيت يداه، ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه، ومن قنع لم يتسخط وعاش آمنا مطمئنا، ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبته.

أيها المسلمون: إن الإنسان فطر على حب المال، والدنيا، والجمال، والمراكب…، وهذا الحب والطمع إذا زاد عن حده فإنه مذموم وممقوت، وإن القناعة خير علاج، وأنجح وسيلة، وأفضل وقاية من الوقوع في غير المرغوب.

فالقناعة: هي الرضا بالقسم وقيل هي الاجتزاءُ باليسير من الأغراض المحتاج إليها.

وقال الجاحظ: القناعة هي: الاقتصار على ما سنح من العيش والرضا بما تسهل من المعاش ، وترك الحرص على اكتساب الأموال وطلب الراتب العالية مع الرغبة في جميع ذلك وإيثاره والميل إليه قهر النفس على ذلك والتقنع باليسر منه ).

قال أبو ذؤيب الهذلي:

والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها            وإذا تُرَدُّ إلى قَليلَ تَقنَعُ

وقال لبيد :

فمنهمْ سعيدٌ آخِذٌ بِنَصيِبهِ             ومِنْهم شُّقي بالمعيشةِ قَانِعُ

أيها المسلمون : جاء عن فضالة بن عبيده-رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول : (طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشة كفافاً وقنع )، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه )

وقد حث النبي-صلى الله عليه وسلم- أبي هريرة-رضي الله عنه-قال : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(يا أبها هريرة! كن ورعا ً تكن أعبد الناس ، وكن قنعاً تكن أشكر الناس ، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن جوارَ من جاورك تكن مسلماً، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)

وللِرزْقِ أسْبابٌ تَروحُ وَتَغْتَدي         وإني منها بينَ غادٍ ورائحِ

قنعت بثوبِ العُدْمِ من حلّةِ الغنا         ومِنْ باردٍ عذبٍ زلالٍ بمالحِ

فالقناعة غنى قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: ( إن الطمع فقرٌ، وإن اليأس غنىً ، إنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم ).

والقناعة عزة فقد كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه: “قد رفعت حوائجي إلى مولاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت” إنها الثقة بالله، إنه التوكل على الله، إنها القناعة عما في أيدي الناس والرضا بما كتب الله من قليل أو كثير. خطبة محفلية عن القناعة

عباد الله: ما أحوجنا في هذا الزمان الذي كثرت فيه المغريات إلى القناعة، لكي نعيش سعداء أغنياء أعزاء، بعيدون عما في أيدي الناس ، يحبنا الله؛ لأننا لا نطلب حوائجنا إلا منه، ويحبنا الناس؛ لأننا لا نطلب منهم شيء إلا ما أعطيناهم، ونكون مقتدين برسول الله-صلى الله عليه وسلم-فها هو يدعو ربه بأن يرزقه القناعة فعن ابن عباس-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: (اللهم قنعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف على كل غائبةٍ لي بخيرٍ)

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (اللهم ارزق آل محمد قوتا ) أما حياته اليومية فقد كان فيها خير قدوة، وخير مثال لمن أراد أن يقتدي، فقد جاء عن عائشة-رضي الله عنها-أنها قالت لعروة : ابن أختها، وإن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلةٍ في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله-صلى الله عليه وسلم-نارٌ، فقلت: ما كان يعيشكم قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من أبياتهم فيسقيانه ). خطبة محفلية عن القناعة.

وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت : كان فراش رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من أدم وحشوه ليف) فكانت هذه ثرواته-صلى الله عليه وسلم-وممتلكاته البسيطة التي هي عند أفقر واحد في زماننا، مع قدر منزلته، وعلو مكانته، إلا أنه كان في قناعة تامة بما أعطاه الله-عز وجل-وكانت حياته سعادة، وخير وبركة-صلى الله عليه وسلم-.

كُنْ بِما أوتِيتَهُ مُقْتَنِعا ً            تَقْتَفي عيشَ القنوعِ المكتفي

كسراجِ دُهْنُه قوتٌ له             فإذا غَرَّقْتَه فيه طفي

فالعبد العاقل يسعى في إلزام نفسه بالقناعة ويصبر عليها فقد قال-عليه السلام-: (من أصبح آمناً في سربه معافاً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) فالنفس بحاجة إلى مجاهدة ومصابرة فإنها إذا تعودت على القناعة قنعت.

وَالنَّفْسُ رَاغبَةُ إذا رغَّبْتَها          وَإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنَعُ

قال ابن القيم-رحمه الله-:  “يُكملُ غنى القلب بغنىً آخر، هو غنى النفس ، وآيته: سلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة)

وكان محمد بن واسع-رحمه الله-“يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد” .

وهذا حكيم يقول: وجدت أطول الناس غما ً الحسـود، وأهنأهم عيشاً القنوع ، وأصبرهم على الأذى الحريص إذا طمع، وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط)

رَضيتُ مِنَ الدنيا بقوت ٍ يقيمني        فَلا أبتغي منْ بَعْده أبداً فَضْلاً

وَلسْتُ أرومُ القوتَ إلا لأنَّهُ             يُعينُ على عِلمٍ أردُّ بهِ جَهْلا

فمَا هذه الدنيا بِطيب نعيمها            لأيسرَ ما في العلم من نكتةٍ عِدْلا

أيها المسلمون : إنما يبعث على استعمال القناعة أن نذكر حال السلف الصالح وأقوالهم فإن ذلك مما يبعث على استعمال القناعة، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يخبر أصحابه عن حاله المعيشية وماذا ادخر للزمان من القوت والملابس فيقول: ( ألا أخبركم بما استحل من مال الله-تعالى- : حلتان لشتائي وقيظي ( أي ثوب للشتاء وثوب للصيف) وما يسعني من الظهر لحجي وعمرتي وقوتي بعد ذلك كقوت رجل من قريش لست بأرفعهم ولا بأوضعهم فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا) .

وقال بعضهم : إزهد بما عند الناس يحبك الناس ، وارغب فيما عند الله يُحبك الله).

وقيل لبعض الحكماء : ما الغنى؟: قال : “قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك”، وقيل لبعضهم : “وما مالك؟ فقال : التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في الناس ).

اضْرَعْ إلى الله لاَ تَضْرعْ إلىَ النَّاسِ           وَاْقنَعْ بَيأْسٍ فإنَّ العزَّ في اليأس

وَاسْتعَنْ عَنْ كُلَّ ذِي قُربىَ وَذي رَحمٍ        إنَّ الغنىَّ مَن اسْتَغَنْىَ عَنِ النَّاسِ.

وهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي رفض أن يكون مؤَدِّباً لابن سليمان بن علي والي الأهواز ثم أخرج لرسوله خبزا ً يابسا ً وقال له : ما دمتُ أجدُ هذا فلا حاجةَ إلىَّ سليمان، ثم أنشد :

أبْلغْ سُليْمانَ أنيَّ عنْهُ في سَعَةٍ         وَفي غِنىً غَيْرَ أَنيِّ لَسْتُ ذاَ مَالِ

شُحَّاً بِنَفْسَ أنِي لا أرَى أحدا ً           يمُوتُ هزْلاً ولا يبقى على حَالِ

والفَقْر في النَّفْس لاَ في الماَلِ نَعْرفُهُ       وَمِثْلُ ذَاكَ الغْنىَ في النَّفْس لاَ الماَلِ

فأصحاب القناعة هم أغنى الناس بدون مال ولا ثروة، فقد جاء أن موسى-عليه السلام-سأل ربه ، أي رب، أي عبادك أحب إليك، قال : أكثر لي ذكرا، قال يا رب: فأي عبادك أغنى قال: أقنعهم بما أعطيته، قال : يا رب، فأي عبادك أعدل، قال من دان من نفسه)

ويتمثل هذا المعنى الإمام الشافعي في أبيات جميلة فيقول :

رَأيْتُ الْقَناعةَ رَأْسَ الْغِنىَ          فَصِرْتُ بأَذْيَالِهَا مُتُمسَكْ

فَلاَ ذَا يَراَني عَلىَ بَابِه           وَلاَ ذَا يَرانِي بهِ مُنْهَمِكْ

فَصِرْتُ غَنِيَّا ً بِلاَ دِرْهَمِ           أَمُرُّ عَلىَ النَّاسِ شِبْهَ الَمْلِك

فالقناعة مال لا ينفد، وما اقتنع إنسان بما رزقه الله إلا كان من أغنى الناس، وقد قال علي-رضي الله عنه-: “لا تحمل هم قوت يومك الذي لم يأت على يومك الذي أتى فإنه إن يكن من أيام حياتك جاء رزقك”  والقناعة ثوب لا يبلى ، وزاد لا يفنى وهي شعار الأنبياء والصالحين والأتقيـــــاء .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

الخطـــبة الثانية :

الحمد لله الرزاق الكافي ، القائل: “وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها” والصلاة والسلام على النبي الكريم القائل: “اللهم اجعل رزقي قوتا” صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ً كثيرا ً أما بعـد :

أيها المسلمون ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). فكأنه أمر بالقناعة إليهما أقرب من الإكثار من الدنيا :

أقول للنفس صبراً عند نائبةٍ         فعسر يومك موصول بيسر غدٍ

ما سرني أن نفسي غيرُ قانعةٍ        وأن أرزاق هذا الخلق تحت يدي

فالعاقل ينبغي عليه أن يقنع نفسه، ويواسيها، فيصبرها عند النائبة، ويرضها بأن عسر يومها إلى يسر غد، فما هو إلا صبر أيام كأن ساعاتها أطياف أحلام . وإني لا أسر بالطمع والحرص ، ولو ملكت التصرف في أرزاق الناس قاطبة إذ القناعة كنز لا يفنى وجديدها لا يبلى .

وقال أبو حاتم-رحمه الله-:”من أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها خطرا ً القناعة ، وليس شيء أروح للبدن من الرضا بالقضـاء، والثقة بالقاسم، ولو لم يكن للقناعة خصلة تحمدُ إلا الراحة، وعدم الدخول في مواضع السوء لطلب الفَضْل لكان الواجب على العاقل  ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال”

فالقناعة تكون بالقلب: فمن غنى قلبه، غنيت يداه ، ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه ، ومن قنع لم يتسخط ، وعاش آمناً مطمئناً، ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائد نهاية لرغبة. خطبة محفلية عن القناعة

وقال الله-تعالى-: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً )(النحل: من الآية97) قال القرطبي :”القنـــاعة”.

فالعاقل ينبغي عليه أن يغتنى ليغنى ، وأن يعف نفسه عن الحرص والطمع ويرض بما كتب له، فإن صنع ذلك أراح نفسه، وإن مسه الفقر وطوقه الضـر.

فليعلم الإنسان أن القنـاعة راحة ورحبة يستروح وينعم فيها وبها صاحبها، فإن لم ينفع فهو في عذاب وتباب ، وفي فاقة وسهاد، ومذبوح بسكين الفقر وإن أصاب ملك قارون إذ حرم القنـاعة، فكسدت عليه البضاعة، واعلم أن الأقدار تجري بقدر الله وحكمته، وكذلك الغنى والفقر قد قسمها الله، فلا راد لما أعطى ولا معطي لمن حرم سبحانه، فمن كان ذا عيّ وهو مجدودٌ فإنه ناعم مصيب، وإن قعد عن الكسب .

فما يتمم للمرء عيشه وتكتمل به سعادته، فتقر عينه ، ويدفع شينه ، ويكفي همه أن يقنع بما لديه كان ثرياً أو مقلاً ، وليرض بقضاء ربه ففي الرضا والهناءَةٌ والسعادة، ومن كان ذا لبِّ فإنه يتقنع بالقليل الضئيل فهو له خير من الكثير المدخول الذي قد يشوبه الدغل والريبة.

وقد صدق الألبيري

 ومن الغنى ما قد يضر بأهله       والفقر عند الله ليس بضائر  

فينبغي للعاقل أن يرضى بقليله من الرزق أو كثيره، ففي الرضا رخاء المعيشة، وليرضى بما يقيته، ويغنيه عن طمعه في كثير من الفضول قد يطغيه، وليزهد في الدنيا، وليعزف عن غرورها حتى ليكتف بالقليل، وإن ابتغى التزيد أو الكثير فلا عليه ما دام في الحل، ولا ينسى أن خير زينة يزدان بها المرء هي العفاف، كما أن خير الزاد التقوى، والسعي إلى المقسوم لا بد منه فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. خطبة محفلية عن القناعة

وإذا كانت الأرزاق مقسمة عند الله ومقدره ضرب إليها المرء في الآفاق، أم قعد في بيته، ففي القعدة والراحة مسلمة، ومغنمة ما تساوي الأمران وتشاكل الضربان، فإن عقباه فرح وظفر، فطالما أعقب الضيق استاع ، وأعقب الفقر إمراعٌ … وإن مع العسر يسرا. 

فالحمد لله على فضله وحكمته وحسن ما صرف من أموره ، ثم الحمد لله أبد الآبدين على حسن صنعه، وله الحمد كذلك على إعطائه ومنعه، ومن رضي بالله كان مع الله ومن تلبس بالحرص فقد تسربل بالشين والغبن، ومن تقنع ورضي بما آتاه ربه، فقد التحف بالفضل واشتمل بالزين، وتقمص بالراحة، ودفع الهم، وكذلك الرضا والسعادة لا يدركها إلا الرضيُّ القنوع،  ومن كان ذا لبّ ٍ فإنه يتقنع الضئيل، فهو له خير من الكثير المدخول الذي قد يشوبه الدغل والريبة” .

عبد الله : اعلم أن القناعة لها فوائد كثيرة تعود على صاحبها فمنها: أن القناعة من كمال الإيمان وحسن الإسلام، ومنها أن القانع تعزف نفسه في حطام الدنيا رغبة فيما عند الله، ومنها أن القنوع يحبه الله ويحبه الناس، ومنها أن القنوع سعيد النفس بما قسم له من الدنيا، ومنها أن الناس لو قنعوا بالقليل ما بقي بينهم فقير ولا محروم وأن القناعة تشيع الألفـة والمحبة بين الناس . خطبة محفلية عن القناعة

وأخيرا ً أختم بهذه الأبيات :

يا جائعا ً قانعا ً والدهر يرمقه           مقدرا ً أي بابٍ منه يُغِلقه

مفكرا ً كيف تأتيه منيته                 أغاديا ً أم بها يسري فتطرقه

جمعت مالا ً فقل لي هل جمعت له      يا جامع المال أياماً تُفرقه

المالُ عندك مخزون لوارثه                 ما المال مالك إلا يوم تنفقه

أرفة ببال فتىً يغدو على ثقةٍ              أن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون ما يدنسه           والوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتها            لم يلق في ظلها هماً يؤرقه.

اللهم ارزقنا القناعة يا رب العالمين ، اللهم وفقنا لما تحب وترضى ، وارزقنا القناعة بما قسمت لنا إنك سميع الدعـــــاء . وصلى الله وسلم على نبينا محمد . والحمــــد لله رب العــــالمين.

القناعة شبكة الألوكة

القناعة طريق إلى السعادة

الحمدُ للهِ الواحدِ القهَّارِ، مُكَوِّرِ النَّهارِ على الليلِ ومُكَوِّرِ اللَّيلِ على النَّهارِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له عالمُ الجَهْرِ والإِسرارِ، أيقظَ مَن شاءَ مِن عبادهِ وزَهَّدَهم في هذهِ الدَّارِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه المصطفَى المختارُ، رَغِبَ عَن هذِهِ الحياةِ وَفَرَّ إلى العزيزِ الغفَّارِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ السادةِ الأبرارِ، أُوليِ التَّفَكُّرِ والأَبصارِ، وأصحابِ القناعةِ والاعْتبارِ، وعلَى تابِعيهِم بإحسانٍ ما تَعَاقَبَ اللَّيلُ والنَّهارُ.

أيها الأحبة الكرام في الله:

نعيش وإياكم مع خلق عظيم من أخلاق الإسلام، من تخلق بهذا الخلق اطمأن قلبه، وهدأت نفسه، وسلمت من الحرام جوارحه، نعيش مع خلق من أخلاق الأنبياء، وسمة من سمات الأتقياء، وصفة من صفات أهل الفوز والفلاح، إنه خلق القناعة، فما أجمل القناعة، وما أسعد أهلها! لو تحلى بها الناس لزالت منهم الضغائن والأحقاد، وحفت بينهم الألفة والمودة؛ فإنّ ما يقع فيه الناس من خلاف وشقاق سببه الدنيا والتنافس عليها، سببه ضعف القناعة والرضا في القلوب، وصدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حينما قال: “والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبْسَط الدنيا عليكم؛ كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم ” متفق عليه.خطبة محفلية عن القناعة

فما فشا الجشع والطمع إلا عندما غابت القناعة، وما اكتوت الشعوب والمجتمعات بنيران الحسد والكراهية والبغضاء إلا بسبب فقدان القناعة، وما كثرت السرقات والصراعات في كثير من الدول والمجتمعات إلا بسبب غياب القناعة.

قد يسأل سائل ويقول: ماهي القناعة حتى نتصف بها؟

القناعة هي الرضا بما قسمه الله وأعطاه، هي استغناء بالحلال عن الحرام، القناعة هي امتلاء القلب بالرضا وعدم التسخط والشكوى.

معاشر المسلمين الموحدين:

إن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيراً، فالغني أيضاً محتاج إلى القناعة، كما أن الفقير بحاجة إلى القناعة، فقناعة الغني أن يكون شاكرا راضيا، قناعته أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه؛ حتى لا يكون عبدا لها، أما الآخرة فتكون في قلبه، فكم من صاحب مال وفير رُزق القناعة، فلا يغش في تجارته، ولا يمنع الأجير حقه، ولا يذل نفسه للناس من أجل مال أو منصب أو جاه، ولا يمنع زكاة ماله، إن ربح شكر، وإن خسر رضي، فهذا هو القنوع ولو ملك قصور كسرى وقيصر، ولو ملك مال قارون.خطبة محفلية عن القناعة

وقناعة الفقير، أن يكون راضيا بما قسم الله له، مستسلما لأمر الله، لا ساخطا ولا شاكيا، ولا جزعا من حالِه، ولا غاضبا على رازقه، قناعته ألا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، قناعته أن يكون عفيفا متعففا، وأن لا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش.

القناعة طريق السعادة والفلاح:

جُبِلَ الإنسان على حب الخير لنفسه، والتسخط وعدم الرضا بما في يده، والحرص على أن يكون أعلى من غيره، أو ليس أحدٌ أعلى منه، قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات:8]، وقال: ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾ [المعارج: 19-21]، ومن كان كذلك فإنه لا ينال السعادة الحقيقية، لأنه إن كمُل في شيء فلا بد أن يقصر في شيءٍ آخر، وإن فاق غيره في أمرٍ ما فإن غيره قد يفوقه في أمرٍ آخر، ويأبى الله إلا أن يكون الكمال مختصاً به -جل جلاله-، ولكن هناك أمرٌ مهم مَنْ حصَّله نال السعادة ألا وهو الرضا والقناعة بما قسم الله له، فمن ملك القناعة عاش في راحة بال، وطمأنينة النفس، وانشراح الصدر، وذهاب الهموم والنكد والكدر. خطبة محفلية عن القناعة

ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على القناعة، وبيّن أنها طريق إلى السعادة والفلاح، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: قال عليه الصلاة والسلام: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ”. أخرجه مسلم.

وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ – وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”. أخرجه الترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني.

عباد الله:

القناعة طريق إلى الحياة الطيبة:

فيا من أتعبت نفسك من أجل أن تنال الحياة الطيبة المطمئنة؛ عليك بالقناعة، فإن الحياة الطيبة الهادئة في القناعة.

قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقد ورد عن علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم أنهم قالوا: “الحياة الطيبة هي القناعة”.

خذ القناعة من دنياك وارض بها

لو لم يكن لك إلا راحة البدن

وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها

هل راح منها بغير القطن والكفن

أيها المؤمنون الأجلاء:

من أراد طلب الغنى فليطلبه بالقناعة:

قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “ليس الغِنَى عن كثرة العرَض، ولكن الغِنى غِنى النفس” متفق عليه.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعْمَل بهن، أو يُعَلم مَن يعمَل بهن”؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدّ خمسا، وقال: “اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب”. أخرجه الإمام أحمد والترمذي والطبراني، وحسنه الألباني.

قال سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني: إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد؛ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر.

أيها الأعزاء الكرام:

من أراد الرفعة والمكانة بين الناس، فعليه بالقناعة:

كما جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئتَ فإنكَ ميّت، وأحبِب مَن أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّهُ استغناؤه عن الناس”. رواه الحاكم وصححه، والطبراني والبيهقي. وصححه الألباني.

هل هناك منزلة أعظم من أن يحبك الله ويحبك الناس؟!

تعالوا بنا لننهل من أقوال المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو يبن لنا المنزلة الرفيعة التي ينالها صاحب القناعة في الدارين، فعن سهل بن سعد الساعدي قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؛ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك”. أخرجه الحاكم وابن ماجة والطبراني، وصححه الألباني.

عباد الله:

لنا في رسول الله قدوة حسنة في القناعة:

أعظم نموذج في القناعة والرضا؛ هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والأسوة في كل خلق جميل. فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قنوعاً زاهداً راضيا صابرا محتسبا، كان أبعدَ الناس عن ملذات الدنيا، وأشدهم رغبة في الآخرة. وكيف لا يكون كذلك ورب العالمين سبحانه يخاطبه بقوله: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾.

فيا مَن تشكو من توالي الهموم والأحزان، من قلة المال، من الفقر والحاجة… كن راضيا صابرا محتسبا قنوعا، ولتكن لك في رسول الله أسوة حسنة وقدوة طيبة؛ انظر إلى طعامه، وانظر إلى فراشه ولباسه، وانظر إلى مسكنه، لتدرك أنك في نعم كثيرة وخيرات وافرة.

ففي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: “لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين”.

وروى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجعٌ على حصيرٍ، فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحو الصاع، ومثلها قرظًا في ناحية الغرفة، وإذا أفيقٌ معلقٌ، قال: فابتدرت عيناي، قال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفوته، وهذه خزانتك، فقال: يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟، قلت: بلى.. )). (القَرَظ) هو ورَق السَّلَم تدبغ به الجلود. (أفيق) جلد لم يدبغ.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا القناعة بما رزقنا، وأن يجعل حسابنا يسيرا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا، إنه سميع مجيب.

قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم….

الخطبة الثانية

الحمد لله جعل الغنى والفقر، وأمر بالصلاة والصبر، فاضل بين عباده في حظوظ الدنيا، وحظوظ الآخرة، وأعظم الأجر.

وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العظمة والقدر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رفع الله ذكره، وشرح له الصدر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما سجى ليل وانبثق من بعده الفجر.

أيها الفضلاء:

سؤال يهمنا جميعا، كيف نكتسب خلق القناعة، وما الطريق إليه؟

نكتسب هذا الخلق بالإيمان واليقين الجازم من أن الله هو الرزاق، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، وأبشركم جميعا بهذا الحديث لتطمئن النفوس، عَنْ جابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهَرَبُ مِنَ الْمَوْتِ؛ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ)) السلسلة الصحيحة: (952).

يقول عامر بن عبد قيس رضي الله عنه: “أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن مساء لم أبال على ما أمسي، وإذا تلوتهن صباحًا لم أبال على ما أصبح: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر: 35]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾

[يونس: 107]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6] وقوله تعالى: ﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7].

الطريق إلى القناعة يكون بمعرفة حقيقة هذه الحياة، وأنها إلى زوال، وأن متاعها إلى فناء، فلا يفرح غنيّ حتى يطغى ويَبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم، ولا غنى يدوم، وسندخل قبورنا بثياب بيضاء، الكل سواسي لا فرق بين غني وفقير، ولا كبير ولا صغير، ولا رئيس ولامرؤوس، إلا بالتقوى.

إذا أردنا أن يرزقنا الله القناعة، أن ننظر إلى من أقل منا مالا وجاها وحسبا، فقد علمنا ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ”. قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ “عَلَيْكُمْ”. وفي لفظ لابن حبان في صحيحه: “إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ”.

صفة عظيمة من صفات عباد الرحمن من اتصف وعمل بها رزق القناعة:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [ الفرقان: 67].

التفاوت في الأرزاق والمراتب بين العباد لحكمة يعلمها الله:

لله سبحانه وتعالى حكمة في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والمصالح، ويخدم بعضهم بعضًا. قال الله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ [الأنعام: 165].

فلا يجوز الاعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون أين تكمن المصلحة وقد قال سبحانه: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾[البقرة: 216]

أخيراً حتى نتخلق بهذا الخلق، لا بد أن نعلم أن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان، قال سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.

ومن صفات المؤمن أنه صابر في البأساء والضراء، شاكر في السراء والرخاء. وهذا ما نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”. رواه مسلم من حديث صهيب.

عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه…..