يقدم لكم موقع إقرأ في هذا المقال خطبة محفلية عن السعادة ، و خطبة عن سعادة البيوت ، و خطبة جمعة عن راحة البال ، و خطبة عن السعادة صيد الفوائد ، و خطبة عن الحياة الطيبة ملتقى الخطباء ، السعادة هي من اجمل مما يمكن ان يحصل عليه الانسان في حياته، وفي حال ان سار على ما امر به الله عز وجل فهذا يعني بان الله سوف ينعم عليه براحة البال والطمأنينة والسعادة الكبيرة، فمن خلال تجارب الكثير تبيين بيان السعادة هي القرب من الله وهو من سيتكفل بالسعادة لهذا الشخص، وكما ان السعادة هي ما تكمن ايضا في بر الوالدين ففي حال ان نال المؤمن رضا الوالدين فسيمن عليه الله بالفرح والسرور الذي سيلازمه طوال حياته، فمهمها كانت هنالك هموم فستزول وتعم السعادة التي ستجعله يهنا كثيرا في هذه الدنيا كونه قد سار على ما يرضي الله تعالى.

خطبة محفلية عن السعادة

خطبة محفلية عن السعادة
خطبة محفلية عن السعادة

الخطبة الأولى

عباد الله، إن السعادة هي الهدف الأسمى والأمنية العظمى لكل الناس، وقد اختلف الناس في طلب هذه السعادة، فالبعض يرى أنا السعادة هي في جمع الأموال، والبعض الآخر يرى أن السعادة هي في المأكل والمشرب والزوجة والأولاد، والبعض يراها في الجاه والسلطان، وكل إنسان يرى السعادة من زاوية معينة. والكل يبحث عن السعادة بكل ما أوتي من قوة. وإنَّ كثيرًا من الناس رغم أن عندهم أسبابَ السعادة المادية؛ ومع ذلك فهم غير سعداء. إذن ما السعادة الحقيقية يا ترى؟

إخوة الإسلام، هل السعادة في الملك والسلطان والمنصب والجاه؟! لا، وألف لا؛ فلقد كان فرعون يبحث عن السعادة في الملك؛ وكان يقول بكل غرور: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51]، ونسي أن الذي أعطاه الملك هو الله، وأن الله هو الذي أطعمه وسقاه، قال تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، كل ذلك في سبيل البحث عن السعادة، ولكن هل حصل هذا الطاغية على السعادة؟! لا والله، إنه ظلَّ وسيظلُّ تعيسا شقيا إلى الأبد، فكان جزاء هذا الانحراف وهذا العتو والتكبر والتمرد على الله أن أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فبعد أن كانت الأنهار تجري من تحته جعلها الله تجري من فوقه، ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46]. فَقَد فرعونُ ملكَه؛ بل كان سببا في هلاكه في الدنيا والآخرة، وكذلك أهل المناصب والجاه والسلطان سيفقدونها؛ وستكون هلاكًا لهم إذا لم يتقوا الله فيها.

إخوة الإيمان، هل السعادة في جمعِ الأموالِ وبناءِ القصورِ؛ هل هي في المراكب الفارهة؛ هل هي في كثرة الأولاد والزوجات؟، ليس الأمر كذلك، فهذا قارون قد منحه الله أموالا وكنوزا؛ كما قال الله عنها: ﴿ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ [القصص: 76]، ونسي أن الله هو المعطي، وأن الله هو الرزاق الوهاب، فقال: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ [القصص: 78]، فكفر بنعمة الله؛ وتكبر واغتر، وظن أن هذه هي السعادة، فماذا كان جزاؤه؟ وكيف كانت نهايته؟ لقد خرج على قومه في قمة زينته وغطرسته وغروره، فخسف الله به وبداره الأرض، فما أغنى عنه ماله من الله شيئا، فما أشقاها من نهاية! وما أتعسها من خاتمة!، هلك قارون وفارق أمواله؛ فلم يكن في سعادة حقيقية، وما قارون إلا رمز ومثل لكل من أعطاه الله مالا؛ وظن أنه في السعادة الحقيقية؛ فاغتر به وتكبر به عن طاعة الله وتكبر على عباد الله.

أيها الإخوة، هل السعادة هي في حياة الملاهي والمحرمات؛ والنوم والبعد والتراخي عن تكاليف هذا الدين، والهروب من الواجبات الشرعية التي لله والتي لعباد الله؟ والجواب: إنّ من يعيشون كذلك هم في الحقيقة في قمة التعاسة؛ لأنهم ليس لهم هدف في الحياة ولا قيمة في الوجود. وينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7، 8]. إنها حياة الشهوات والملذات وحياة الغفلة والحيوانات، فما أتعسها وأتفهها من حياة!

أيها الأحبة، إن الكل يبحث عن السعادة الحقيقية، ولكن الكثير يخطئون الطريق إليها؛ ويَضِلُّون عن سواء السبيل؛ وذلك بسبب إعراضهم عن السبب الرئيسي للسعادة، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]. ولماذا هو أعمى يوم القيامة؟ إنه أعمى بسبب أنه تعامى عن طريق السعادة الحقيقية، فأعماه الله عن المعيشة الهنيَّة في الدنيا؛ وأعماه الله عن الجنة في الآخرة، ﴿ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ [طه: 125، 126].

إخوة الإسلام، إن السعادة الحقيقية هي والذي نفسي بيده في طاعة الله عز وجل وفي عبادته وفي التمسك بشرعه؛ وامتثال أوامره؛ واجتناب نواهيه. ولقد ذاق طعمَ السعادة إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام عندما حطم الأصنام وقُذِف في النار، ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 69، 70]. وذاق طعم السعادة يوسف عليه الصلاة والسلام عندما قال: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، فوجد السعادة في حياة الطاعة والطهر لا في الملذات المحرمة، بل وجعل السجن الرهيب مدرسةً للإيمان والتوحيد. ووجد تلك السعادة أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى؛ عندما أووا إلى الكهف فنَشَر لهم ربهم من رحمته؛ وهيأ لهم من أمرهم مرفقا.

وذاق طعم السعادة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، مع ما لا لقي من بلاء وجهد وتعب من محاربة وكيد المشركين واليهود والمنافقين، وهو صامد صابر يبلغ دين الله، وذاق طعمَ الإيمانِ والسعادة أهلُ التمسك بالدين والتضحية له؛ من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وهكذا يجد طعم الإيمان كل من سار في دربهم، لأن الله تعالى يقول: ﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم….

الخطبة الثانية

قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104]، إنهم أناس يعيشون سعادة وهمية؛ يظنون أنهم سعداء؛ بسبب الأمور المادية التي منحهم الله إياها، ولكنهم بعيدون عن الإيمان بالله وعبادته وطاعته، بعيدون عن القرآن والسنة، بعيدون عن المساجد، بعيدون عن الأخوة الإيمانية، بعيدون عن التواصي بالحق والتواصي بالصبر، بعيدون عما يقربهم إلى الله، بل إن هذه النوعية من الناس قد يكونون منغمسين في أنواع من المعاصي والملذات المحرمة؛ التي يجدون فيها متعة سرعان ما تزول، و هم في ذلك يبحثون عن السعادة، ولكنهم واهمون في تلك السعادة؛ لأنه لن يعيش سعيدا ويُبعث سعيدا إلا من كان قريبا من الله؛ بطاعته؛ والبعد عن معصية؛ مشتاقا إلى فضله ورحمته وجوده وكرمه والفوز بجنته.

إن السعادة الحقيقية هي التي تكون في الدنيا طريقًا إلى الفوز في الآخرة، هذه السعادة التي تكون أولا وقبل كل شيء طريقًا للإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].

إن المتمتع بالسعادة الحقيقية هو المؤمن الصادق الإيمان؛ الذي إذا أصابته سراءُ شكر فكان خيرا له، وإذا أصابته ضراءُ صبر فكان خيرا له. هنا تكمن السعادة في الشكر على النعماء بالأقوال والأفعال؛ والرضا الدائم بقضاء الله وقدره؛ والعيش في ظل القرآن والسنة، يقول صلى الله عليه وسلم : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا؛ كتاب الله وسنتي )).

فيا طلاب السعادة؛ ويا عشاق السعادة؛ ويا أيها الباحثون عن السعادة؛ إن السعادة الحقيقية لن تكون إلا بالتمسك بكتاب الله تلاوة وتدبرا وعملا، والتمسك بطريق محمد عليه الصلاة والسلام؛ والسير على دربه، إن السعادة الحقيقية في الهداية والاستقامة والقرب من الله، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].

اللهم اشرح صدورنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا

اللهم أسعد قلوبنا بذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

خطبة عن سعادة البيوت

الْخُطبَةُ الْأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سَعَادَةُ الْبُيُوتِ مَطْلَبٌ نَفِيسٌ، وَأُمْنِيَةٌ عَزِيزَةٌ غَالِيَةٌ؛ تَنْشُدُهَا كُلُّ  الْأُسَرِ فِي بُيُوتِهَا الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهَا سَكَنًا لَهُمْ، يَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَيَسْتَتِرُونَ بِهَا، وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا سَائِرَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)[النحل: 80].

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ بِاسْتِقْرَاءِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ ثَمَّة أَسْبَابٌ لِلْحُصُولِ عَلَى سَعَادَةِ الْبُيُوتِ مِنْ أَهَمِّهَا:

الإِيمَانُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ الَّذِي هُوَ سِرُّ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ الْكَرَامَةِ وَالْفَلاَحِ, فَبِتَحْقِيقِ الإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ تَسْعَدُ وَتَنْعَمُ الْبُيُوتُ, فَلاَ قَلَقَ وَلاَ مَشَاكِلَ وَلاَ اضْطِرَابَ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[ الأنعام: 82 ], وَقَالَ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

وَمِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ: الاِسْتِقَامَةِ عَلَى دِينِ اللهِ -تَعَالَى-, قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت:30]؛ فَالاِسْتِقَامَةُ طَرِيقُ النَّجَاةِ، وَمِفْتَاحُ بَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ، وَدَلِيلُ الْيَقِينِ، وَمَرْضَاةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ: التَّفَاؤُلُ بِالْخَيْرِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ مَهْمَا اشْتَدَّتِ الأَزَمَاتُ، وَطَالَتْ سَاعَاتُ الضَّائِقَاتِ, وَالشَّدَائِدِ وَالْكُرُبَاتِ؛ مَعَ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ الْقَائِلِ: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَة: 216].

وَمِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبِيوتِ: الْوَفَاءُ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ الْمُتَمَثِّلُ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ عُمُومًا مِنْ تَلاَحُمٍ وَتَرَاحُمٍ، وَبَذْلِ النَّدَى وَكَفِّ الأَذَى؛ فَالْوَفَاءُ خُلُقٌ عَظِيمٌ لاَ يَتَّصِفُ بِهِ إِلاَّ الْعُظَمَاءُ، وَهُوَ وَلِيدُ الأَمَانَةِ، وَعُنْوَانُ الصِّدْقِ، وَنُبْلُ الْخُلُقِ، وَسَلاَمَةُ الصَّدْرِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً)[ الإسراء: 35 ], وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ“(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

وَمِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ، وَلاَ سِيَّمَا الزَّوْجَانِ، وَتَتَمَثَّلُ فِي حُسْنِ الْعِبَارَةِ، وَاخْتِيَارِ الأَلْفَاظِ الرَّاقِيَةِ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالرُّدُودِ وَالْمُنَادَاةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ  إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)[الإسراء: 53], وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لَيْسَ المؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ, وَلاَ الفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ“(روَاه الترمذي، وصححه الألباني).

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَتَخَلَّقُوا بِهَذِهِ الأَخْلاَقِ الْحَمِيدَةِ، وَالأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ الْكَرِيمَةِ؛ تَفُوزُوا بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ: احْتِسَابَ الْوَالِدَيْنِ فِيمَا يُقَدِّمَانِهِ مِنْ جُهْدٍ وَتَضْحِيَاتٍ, وَمَالٍ وَوَقْتٍ فِي بِنَاءِ أُسْرَةٍ سَعِيدَةٍ؛ مَعَ التَّسَلُّحِ بِسِلاَحِ الرِّفْقِ وَالتَّحَمُّلِ وَالصَّبْرِ, لِمَا قَدْ يُصِيبُ الْوَاحِدَ مِنْهُمَا مِنْ تَعَبٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ جُحُودٍ,  قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا؛ فَهِي لَهُ صدقَةٌ“(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ), وَعنْ أَبي سَعيدٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا؛ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ“(متفقٌ عَلَيهِ).

وَمِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ: صَلاَحُ الْوَالِدَيْنِ؛ فَهُمَا الْقُدْوَةُ، وَمِنْهُمْ يَتَعَلَّمُ الأَوْلاَدُ الْخِصَالَ الْحَمِيدَةَ فِي دِينِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ، وَكَمَا قِيلَ: “النَّاسُ لاَ يَتَعَلَّمُونَ بِآذَانِهِمْ بَلْ بِعُيُونِهِمْ”؛ فَإِنَّ لِلأَفْعَالِ تَأْثِيرًا لاَ يَقِلُّ أَثَرُهُ عَلَى الأَقْوَالِ وَالتَّوْجِيهَاتِ, وَقَدْ أَوْصَى أَحَدُ السَّلَف مُعَلِّمَ وَلَدِهِ قَائِلاً: “لِيَكُنْ أَوَّلَ إِصْلاَحِكَ لِوَلَدِي إِصْلاَحُكَ لِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّ عُيُونَهُمْ مَعْقُودَةٌ بِعَيْنِكَ، فَالْحَسَنُ عِنْدَهُمْ مَا صَنَعْتَ، وَالْقَبِيحُ عِنْدَهُمْ مَا تَرَكْتَ”.

اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا؛ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ، وَعَافِهِمْ واعْفُ عَنْهُمْ، وَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ بُيُوتَنَا عَامِرَةً بِالإِيمَانِ وَالأَمَانِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا“(رَوَاهُ مُسْلِم).

قد يهمك:

خطبة جمعة عن راحة البال

خطبة جمعة عن راحة البال
خطبة جمعة عن راحة البال

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا عباد الله، تحدثنا في الجمعة قبل الماضية عن الطمع، فما هو علاج الطمع؟ علاج الطمع جوابه في كلمة واحدة: “القناعة”، وورد حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحو: “القناعة كنز لا يفنى”، لكنه ضعيف جدا، فلا يعول عليه، وإن كان معناه صحيحا، فـالقناعة كنز لا يفنى، تُرى، ما هي القناعة؟.

القناعة: أن ترضى بما تسهَّل لك من أمور الدنيا، وألا تحرص على السعي وراءها، وأن تقنع وتقهر نفسك على ذلك؛ ولذا، لما سئل بعض الحكماء: ما هي القناعة؟ قال: “قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك”، فإذا رضيت بما لديك وانقطعت أمانيك فهذه هي القناعة.

ولذا مدح الله -عز وجل- أقواما هم فقراء، ومع ذلك قال -عز وجل- عنهم: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) [البقرة:273]، مع حاجتهم إلى السؤال، لا يسألون الناس لقناعتهم، بل إذا رآهم الرائي ظن أنهم أغنياء، ولذا أمر الله -عز وجل- من كان وليا لليتيم وكان غنيا ألا يأخذ من ماله شيئا ولو كان يقوم على ماله: (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:6].

“قد أفلح” هذا خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، “قد أفلح”، ما هو الفلاح؟ هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، و(قد) هنا للتحقيق، بل قال النحاة: إن (قد) إذا دخلت على الفعل الماضي دلت على القرب، فدل على أن هؤلاء المذكورين في هذا الحديث قد أفلحوا وهم في فلاح، قال -صلى الله عليه وسلم- “قد أفلح”، مَن؟ “مَن أسلم، ورُزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه”.

وعند الترمذي، من حديث فَضَالة بن عبيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن نوعا من هذا الفلاح، قال: “طوبى”، و”طوبى” قيل: هي اسم للجنة، وقيل: اسم شجرة في الجنة، “طوبى لمن هُدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع”.

إذاً؛ لما طابت نفوسهم بهذه القناعة قنَّع الله -عز وجل- حالهم في الآخرة فرزقهم طوبى، ولذا من لم يقنع لن يغتني أبدا، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين، ماذا قال؟ قال: “ليس الغنى غنى العَرَض”، أي عرض الدنيا، “ولكن الغنى غنى النفس”.

تصور لو أن إنسانا لديه أموال كثيرة ويحرص على أن يزيد هذا المال، ما اقتنع؛ لأنه يشعر في نفسه أنه في حاجة وفقر، ولذا  لا يكون الإنسان قنوعا إلا إذا شكر الله -عز وجل- على حالته وعلى ما هو فيه من العيش، النبي -صلى الله عليه وسلم-… أوصى أبا هريرة -رضي الله عنه- بوصايا …، قال: “يا أبا هريرة، كن ورعا تكن أعبد الناس”، موضع الشاهد: “وكن قنعا تكن أشكر الناس”.

وسبب بلائنا أننا ننظر إلى الغير مع أن لدينا خيرا عظيما، لكن بعضنا ينظر إلى ما في يد الآخرين فلا يقنع بما لديه، ومن ثمَّ لا يشكر هذه النعمة التي بين يديه، والتي حُرم منها أناس آخرون، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، واللفظ لمسلم: “انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم”، لِمَ؟ “فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عليكم”، عندك نعمة، إذا رأيت ما في يد الغير ولم تقنع بما في يدك لم تشكر الله -عز وجل- وحقرت هذه النعمة.

يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: “لا يكمل غنى القلب إلا بغنىً آخر، ألا وهو غنى النفس… أن يقلل من حظوظ النفس، وأن يدع المراءاة”.

ولذا؛ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند البخاري من حديث عمرو بن تغلب، أعطى قوما عطية وترك آخرين، فمن تُرِك كأنه عتب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -عليه الصلاة والسلام-: “إني أعطي قوما لما أخاف من ظَلعهم”، يعني من اعوجاجهم عن الطريق المستقيم، “لِما أخاف من ظلعهم وجزعهم، وإني أدع أقواما لما أعلم في قلوبهم من الخير والغنى”، نسأل الله -عز وجل- أن يملأ قلوبنا غنى وخيرا. “وإني أدع أقواما لما أعلم في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب”، قال عمرو: “ما أحببت أن لي بكلمة النبي -صلى الله عليه وسلم- حُمْر النعم”، وهي الإبل الحمراء النفسية عند العرب.

وإن أعظم الأولياء … من كان قنعا، قال -صلى الله عليه وسلم- كما عند الترمذي: “إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ”، يعني قليل المال، “ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاع ربه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده”، مبينا أن هذا الرجل مغمور في الناس لا يُعرف مع أنه عند الله له قدر عظيم، قال -عليه الصلاة والسلام-: “عُجِّلت منيته، قلَّت بواكيه، قلَّ تراثه”،  ثم ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر هذا الحديث مثلا يقتدى ويتأسى به، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إن ربي عرض عليّ بطحاء مكة أن تكون ذهبا، فقلت: لا يا ربي، أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جُعت يا ربي تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت شكرتك ربي وحمدتك”.

ولذا؛ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الحاكم  كان يدعو ربه أن يقنّعه، ونحن بحاجة إلى أن ندعو الله -عز وجل- ليل نهار، صباح مساء، أن يقنع نفوسنا، ولا سيما في هذا الزمن الذي تناظر الناس فيه بعضهم إلى بعض فيما في أيديهم، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الحاكم كان يقول: “اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه”، لم؟ لأن من قنع لم يَلْهُ قلبه عن طاعة الله -عز وجل-…

النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: “ما طلعت شمس يوم قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان ويسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: أيها الناس هلموا إلى ربكم، فإن ما قلَّ وكفى خيرٌ من ما كثر وألهى، وما غربت شمس يوم إلا وبجنبتيها ملكان يقولان: اللهم عجِّل لمنفقٍ خلفا، وعجِّل لممسك تلفا”.

ولذا كان رزق النبي -صلى الله عليه وسلم- كفافا، بل قال: “اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا”، وقال كما في الصحيحين: “اللهم ارزق آل محمد قوتا”، القوت: ما يقتات به الإنسان بقدر الحاجة، وهذا هو الكفاف.

فما هو عيش النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ لنضرب بعض الأمثلة وبعض النماذج حتى نقنِّع أنفسنا، وحتى ندرك ونعلم أننا بخير وفي خير، والله ما جاء مع هذا الدين من خير فإنه خير عظيم… تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في الصحيحين لعروة بن الزبير -رضي الله عنهما-: “ابن أختي، إنا آل محمد لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ما يوقد في بيت آل محمد نار”، في جميع بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم-! قال: يا أُماه! ما طعامكم؟ قالت: “الأسودان: التمر، والماء”، مع أن هذا التمر لا يرغب فيه أجيالنا في مثل هذه السنين، ولذا تقول -رضي الله عنها- كما في الصحيحين: “ما أكل آل محمد في يوم أكلتين إلا كانت إحداهما تمرا”، لا يمكن! التمر وجبة أساسية في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقلة ما في يديه! صلوات ربي وسلامه عليه! “ما أكل آل محمد في يوم أكلتين إلا كانت إحداهما تمرا”.

وتقول -رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري: “كان فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- من أَدَم”، يعني من جلد، حشوه من ماذا؟ من قطن؟ لا والله! من ليف! “كان فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- من أدم حشوه ليف”.

يقف أنس ابن مالك على خبازه، كما في صحيح البخاري، وكان حوله أصحابه، فقال أنس -رضي الله عنه-: “كلوا، والله ما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغيفا مُرَقَّقا حتى لحق بربه”، ما رآه! ماذا نقول لأنفسنا؟ ولذا تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: “لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت في يوم مرتين”، خبز وزيت، ما هو هذا الزيت؟ أين موائدنا؟ أين أطعمتنا؟ أين أشربتنا؟ أين قناعة نفوسنا؟ يقول أنس -رضي الله عنه- كما عند البخاري: “ما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خِوان حتى لحق بربه”، الخوان مثل الطاولة، يعني: ما أكل على شيء مرتفع عن الأرض أبدا، ما أكل إلا على الأرض -صلى الله عليه وسلم-.

وتقول عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: “ما شبع آل محمد من خبز الشعير”، الشعير ليس الدقيق ولا البر، “ما شبع آل محمد -صلوات ربي وسلام عليه- من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبض”.

وقد صدق الشاعر حينما قال:

   والنفس راغبة إذا رَغَّبتها *** وإذا تُرد إلى قليل تقنع

أبو حازم كتب إليه وال من الولاة: ارفع إليّ حوائجك، فقال: “قد رفعت حوائجي إلى ربي، فما أعطاني منها قبلتُ، وما أمسك عني قنعت”.

سالم، أبوه من؟ عبد الله، جده من؟ عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، يصادفه أحد الخلفاء وهو يطوف بالكعبة، فقال: يا سالم سلني، فقال: “إني أستحيي من الله أن أسأل غيره وأنا في بيته”، فلما خرج قال هذا الوالي: سلني يا سالم، فقال سالم: “أسألك من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟”، قال: من حوائج الدنيا فإن حوائج الآخرة لا أملكها، فقال سالم -رحمه الله-: “والله! ما سألت حوائج الدنيا ممن يملكها وهو الله، فكيف أسألها ممن لا يملكها!”

نسأل الله -عز وجل- أن يقنع قلوبنا…

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا عباد الله، محمد بن واسع، وهو أحد التابعين -رحمه الله- كان يبل الخبز اليابس بالماء، فكان يقول لأحد أصحابه: “من وجد هذا فقنع به لم يحتج إلى أحد أبدا”.

وقال بعض الحكماء: “وجدت أطول الناس هما الحسود”، نعم والله! دائما في هم وقلق؛ لأنه يرى ما في أيدي الآخرين ولا يستطيع أن ينال مثله، ولذا صدق الشاعر حينما قال:

 إن القناعة من يحلل بساحتها *** لم يلق في ظلها هَمَّاً يؤرقه

قال بعض الحكماء: “وجدت أطول الناس هما الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص على طمع، وأعظمهم ندامة العالم المفرط”.

فهل يُخْلِدنَّ ابني هشام غناهما *** وما يجمعان من مئينَ ومن ألف؟

يقولان نستغني ووالله ما الغنى *** من المال إلا ما يُعف وما ويكفي

والنبي -صلى الله عليه وسلم- اختصرها كما عند ابن ماجة: “ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما أيدي الناس يحبَّك الناس”.

الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو أحد علماء اللغة، توفي سنة مائة وسبعين، وهو الذي أنشأ وألف علم العروض، وله باع طويل في هذا، المهم أن والي الأهواز واسمه سليمان عرض عليه أن يؤدب وأن يعلم أبناءه، فأخرج الخليل بن أحمد الفراهيدي خبزا يابسا وقال: متى ما وجدت هذا فلا حاجة لي في سليمان ولا في ملكه، ثم أنشد قائلا:

 أبلغ سليمان أني عنه في سعة *** وفي غنى غير أني لست ذا مال

 شحا بنفسي أني لا أرى أحدا *** يموت هزلا ولا يبقى على حال

والفقر في النفس لا في المال نعرفه *** وقبل ذاك الغنى في النفس لا في المال

نسأل الله -عز وجل- أن ينظف قلوبنا…

خطبة عن السعادة صيد الفوائد

قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [الحج: 77] وقال الله تعالى: }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{([1])، وقال تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [النحل: 97] وقال تعالى: }وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى{ [طه: 82] وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [الحديد: 28] }وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ{ [الطلاق: 2، 3] وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا{ [الأحزاب: 70، 71] وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [البقرة: 218] وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ{ [البقرة: 277] وقال تعالى: }وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{ [النور: 56] والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: «اتقوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»([2]) وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا لطعام، وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام»([3]) وقال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني([4]) وقال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه»([5]) وقال: «ثلاث منجيات تقوى الله في السر والعلانية والقول بالحق في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى([6])»

فيتلخص مما سبق من أسباب السعادة ما يأتي:

  1. الإيمان الصادق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
  2. العمل الصالح الخالص لله الموافق للسنة وفي مقدمة ذلك القيام بأركان الإسلام الخمسة
  3. التواصي بالحق الذي شرع الله ورسوله وأمر به.
  4. التواصي بالصبر على طاعة الله والصبر عن معاصيه والصبر على أقداره المؤلمة.
  5. تقوى الله تعالى وطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
  6. التوبة النصوح في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات.
  7. طاعة ولي الأمر في غير معصية الله.
  8. معاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به.
  9. الشكر عند النعم والصبر عند المصائب.
  10. إفشاء السلام وصلة الأرحام وإطعام الطعام والصلاة في الليل و الناس نيام.
  11. القناعة برزق الله وهي كنز لا يفنى.
  12. الاقتصاد في النفقات.
  13. الاستمرار على ذلك والثبات والاستقامة عليه حتى الموت }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ [الحجر: 99] وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ{ [فصلت: 30] }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [الأحقاف: 14].
  14. الجهاد في سيبل الله بالأموال والأنفس ويشمل جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين.
  15. الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وهجر ما نهى عنه الله ورسوله اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة ويسر لنا أسبابها يا رب العالمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا قريب يا مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين([7]).

خطبة عن الحياة الطيبة ملتقى الخطباء

الخطبة الأولى:

الحمد لله إيماناً بكماله وجلاله، ويقيناً بعلمه وحكمته، ورضى وطمأنينة بعدله ورحمته، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، أحمده تعالى وأشكره حمدا وشكرا كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله -تعالى- بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ما من خير إلا دل أمته عليه، وما من شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 – 71].

عباد الله: الحياة الطيبة والسعادة، والعيشة الهنية الرضية؛ مطلب مهم، ومقصد أسمى، يسعى إلى تحقيقه البشر، وتشرئب إلى سماعه النفوس، وتطمح إلى تحقيقه وبلوغه الأفئدة.

السعادة هدف سامي ينشده كل الناس، ويبحثون عنه، بدءًا من المثقف إلى العامي، ومن السلطان إلى الصعلوك، ما منهم من أحد إلا يكره حياة النكد والشقاء، ويرنو إلى حياة السعد والهناء، ولهذا تعددت مشارب الناس ووسائلهم، وتنوعت أساليبهم وأفهامهم في البحث عن السعادة، والعيش في ظلالها.

إلا أن من الناس من قد أخطأ الطريق، وزل به الفهم في إدراك معنى  السعادة الحقة، وتحقيق الحياة المطمئنة التي يرغب فيها، ويسعى إلى بلوغها؛ لأنه لم يسلك الطريق الصحيح لبلوغها.

فمن الناس من يبحث عن السعادة في جمع الأموال، فيراها في تحصيل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث.

ومن الناس من يبحث عن السعادة في المناصب والوجاهات والرئاسة، وحب الإستعلاء، فيراها في الوظائف والمناصب التي ترفعه عن الناس.

ومنهم من ينشد السعادة في كثرة الأولاد، وصحة الأجسام، وشبع الأبدان، والمظاهر والشكليات.

ومنهم من لا يرى السعادة إلا في متعة البدن، وكثرة اللهو واللعب، وتقطيع الأوقات، وإمضاء الساعات في المقاهي والاستراحات والمتنزهات، والعكوف على المشاهد والقنوات.

عباد الله: لقد طلب السعادة أقوام على مر العصور بطرق متعددة ليست على هدي الله -تعالى- وهدي رسله -عليهم الصلاة والسلام-، فكانت بعض هذه الطرق سبب لدمارهم وهلاكهم، وإن لنا فيما قصه الله علينا في كتابه الكريم من قصص أقوام طلبوا السعادة في غير مظانها الحقيقية فانقلبت سعادتهم شقاوة أبدية في الدنيا والآخرة؛ إن لنا في ذلك لمعتبر.

هذا فرعون أعتى من عرفته البشرية تكبرا وتجبرا، ينعم الله عليه بأعظم النعم، ويعطيه ملك مصر، ويجمع له الناس، ويُجري له الأرزاق والأنهار، فيخاطب الملايين الذين استعبدهم عقودا من الزمان ويقول: (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف: 51]، (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38] فكان عاقبة هذا العتو والتكبر والتمرد الشقاء واللعنة والهلاك: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) [النازعات: 25]، (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45 – 46].

وهذا قارون منحه الله -تعالى- كنوزا كالتلال تنؤوا بحمل مفاتحها الأثقال، ما جمعها بجهده ولا بكده، بل بفضل الله ونعمته، وحُذِر من الفساد في الأرض، والتكبر على العباد، لكنه استكبر وعتى عما نهى الله عنه، فحُرم السعادة في الدنيا والآخرة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص: 81].

هذا الوليد بن المغيرة يرى أن السعادة في تكثير الأموال والأولاد، ويرزقه الله مالا ممدودا، وعشرة من الأبناء عن يمينه وشماله، فيكفر بنعمة الله عليه، ويعصي رسوله، ويهزأ به، فيُحرم السعادة، ويُكتب له الشقاء في الدنيا والآخرة: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا* وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا *   سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) [المدثر: 11 – 17].

وغيره وغيرهم، أمم وأقوام في الماضي والحاضر انتكست أفهامهم في طلب السعادة، فطلبوها في غير طرقها الصحيحة، فما لبثوا أن انقلبت عليهم حسرة وندامة وشقاوة وتعاسة.

والحق -يا عباد الله-: أن السعادة الحقيقية والحياة السعيدة ليست في شيء مما مضى كله بدون توفيق الله -تعالى-، فقد شقي أناس بأموالهم وأولادهم وأزواجهم، وشقي آخرون بعواقب مناصبهم وجاههم، وشقي آخرون بلعبهم ولهوهم.

السعادة الحقة ليست في وفرة المال، ولا كثرة الولد، ولا سطوة الجاه، ولا رفعة المنصب، السعادة أمر معنوي ملموس لا يقاس بالنوع والكم، ولا يشترى بالدينار والدرهم، لا يملك بشر أن يعطيها من حُرمها، ولا أن ينتزعها ممن أوتيها.

السعادة الحقيقة والحياة الهانئة المطمئنة إنما تكون في الإيمان والعمل الصالح، يقول ربنا -عز وجل- ومن أصدق من الله قيلا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) الحياة الطيبة هي السعادة بكل معانيها: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) أي في الدنيا، أما في الآخرة: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وذلك في جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، لا مرض فيها ولا نصب، ولا هم ولا غم، ولا تعب ولا موت، بل لذاتها متتابعة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هذه هي السعادة التي أخبرنا عنها ربنا -عز وجل-.

بل أخبر أن من أعرض عن ذكره فإن له المعيشة الضنك، ويٌحشر يوم القيامة أعمى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طـه: 125 – 127].

عباد الله: الحياة بغير الإيمان تعقيد تحفة المنغصات، بضعف الإيمان تنبت الاضطرابات الاجتماعية، والأمراض النفسية.

الدنيا للمؤمن ليست عبئا مضَجِرا، ولا لغزا محيرا، ولكنها مرحلة ومزرعة، ودار ممر واختبار يرجو بعدها لقاء الله -تعالى-.

المؤمن تغمره السعادة؛ لأنه مؤمن بأن الحياة محكومة بأقدار الله -تعالى- فلا ييأس على ما فات، ولا يبطر بما حصل، ولا يستسلم للخيبة، ولا يهلك نفسه تحسراً، بل كل مواقف الدنيا عنده ابتلاءً بالخير والشر، ولئن زلزلته وقائع البلوى رده الإيمان إلى استقرار النفس، وبرد اليقين، ورباط الطمأنينة، فنعِم بالسكينة من غير هلع ولا شقاء.

المؤمن يملك السعادة والراحة التي تجمع له بين التوكل والعمل الكادح، لا يزلزله جزع، ولا يرهقه قلق، يعمر الحياة نشاطاً واجتهاداً.

المؤمن يعلم أن السعيد لا يأكل أكثر مما يأكل الناس، ولا يملك أكثر مما يملك الناس، ولكنَ السعيد يرضى أكثر مما يرضى الناس.

عباد الله: إن من أسباب السعادة: الإيمان بالله -عز وجل- والذي يتضمن الرضا والقناعة بما أُعطي العبد، هذا هو الغنى الحقيقي؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس” [متفق عليه].

رضا وقناعة بما يعطى، رضا بما يقدر الله -عز وجل- على العبد، فمن أُعطي الرضا فقد أُعطي السعادة.

أما الساخطون الشاكون فلا يذوقون للسرور طعماً، حياتهم سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك.

الساخط المتسخط دائم الحزن والكآبة، ضيق النفس والصدر، ضائق بالناس وضائق بنفسه.

الدنيا في عينه كسم الخياط.

أما الرضا فسكون وطمأنينة ورضا بما قدر الله -تعالى- واختار، فمن أنعم الله عليه بالرضا تأتيه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِم، ولا يصبح ولا يمسى إلا راضياً مرضياَ.

هنيئا لمن ملأ الرضا فؤاده، لا يتحسر على ماضٍ باكياً حزيناً، ولا يعيش حاضراً متسخطاً جزوعاً، ولا ينتظر المستقبل خائفاً ووجلاً، لا يعيش رهبة من غموض، ولا توجس من مستقبل، إيمانه مصدر أمانه: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى وصحبه، وسلم تسليما كثيراً.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله: لا بد أن يعرف المؤمن حقيقة السعادة، وأن تكون نظرته للحياة نظرة صحيحة سوية؛ لأن بعض الناس ينظر للدنيا نظرة غير سوية، أو ينظر للمال نظرة غير سوية، وبسبب هذه النظرة تتأثر تصرفاته في هذه الحياة، وربما تصرَف تصرفات غريبة، والسبب في ذلك: سوء النظرة، والفهم غير الصحيح للسعادة، والفهم غير الصحيح للحياة الدنيا.

هذه الحياة الدنيا لابد أن يستحضر المؤمن أنها دار ممر وعبور، وأنه لن يخلد فيها إلى أبد الآباد، وأنه مهما أعطي فيها من متع الدنيا فإنه لابد من لقاء الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق: 6]، (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 205 – 207].

هذه الدنيا لا تصفو لأحد، لكن لو افتُرض أنها صفت لأحد من المكدِرات والمنغصات فإنها زائلة وفانية، ولا بد من لقاء الله -عز وجل-، ولا بد بعد ذلك من بعث وجزاء وحساب ونشور: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7 – 8].

فلابد من النظرة السوية، النظرة الصحيحة لهذه الحياة الدنيا، والنظرة الصحيحة للسعادة، وأنها إنما تكمن في الإيمان والعمل الصالح، وطاعة الله -عز وجل-.

ومن نشد السعادة في غير ذلك فإنما ينشد أوهاما وخيالات، وإن حصَل شيئا من المتع المادية فإنها زائلة وفانية، مآلها للفناء، ومن لم يقدم عملا صالحا في دنياه فإنما حصله من متع في هذه الدنيا تكون قد ذهبت، وحينئد يكون مآله ومصيره إلى الشقاوة العظيمة.

نسأل الله السلامة والعافية.

كذلك أيضا لابد من النظرة الصحيحة السوية للمال، فإن بعض الناس ينظر للمال نظرة غير صحيحة، يتشبث بهذا المال وكأنه مخلد أبد الآباد، ألسنا نرى في المجتمع -أيها الإخوة- من هو محروم من ماله، بل هو في الحقيقة كالحارس القوي الأمين على هذه الثروة، يحرسها للورثة بعده، حرم نفسه من أن يتمتع بها في دنياه وفي آخرته، وإنما يحرسها طيلة حياته إلى أن تنتقل غنيمة باردة للورثة بعده، وربما لا يحمده الورثة على هذه الثروة التي جمعها طيلة حياته، والقصص في هذا كثيرة مشهورة، ومن ذلك ما حدثني به أحد مدراء المصارف: أن رجلا كان له حساب فيه مبلغ كبير بالملايين، وأنه قد افتُقِد مدة طويلة، فاتصل بأهله وطلب من أكبر أبنائه أن يحضر إليه في المصرف، فسأل عن والدهم فأخبر أنه قد توفي منذ مدة طويلة، فأخبره بأن له رصيد في المصرف، وأن هذا الرصيد بهذا المبلغ الكبير الذي يقدَر بالملايين، فانهار ذلك الابن فأصبح يبكي، بل أصبح يدعو على والده، دعاء بحرقة وألم، ويرى بأنه قد ظلم نفسه وظلم أولاده بحياة البؤس والشقاء التي كان يعيشها في هذه الدنيا.

فقولوا لي بالله ماذا استفاد هذا الإنسان من هذه الثروة الكبيرة التي جمعها بجهد وكد وتعب وشقاء؟

لم ينتفع بها وهو حي، ولم ينتفع بها كذلك وهو ميت، بل ورثته لم يحمدوه عليها، بل ربما دعوا عليه بسبب ما تسبب لهم فيه من حياة الفقر والبؤس التي يعيشونها.

وهذا كله بسبب النظرة غير السوية للمال.

ماذا لو أن هذا الإنسان نظر لهذا المال بنظرة سوية صحيحة، فأكل من هذا المال، وأطعم وتصدق، وأكرم ضيفا، ووصل رحما، وجعل له وقفا ينفعه بعد وفاته، لكان هذا المال بركة عليه في حياته وبعد مماته.

ورجل آخر استفتاني قبل أيام يقول: إن والده يملك ثروة كبيرة من المال وإنه من الصالحين يأتي إلى المسجد مبكرا، وحريص على الخير والطاعة، لكنه متشبث بالمال تشبثا كبيرا إلى درجة أنه لا يخرج الزكاة. فماذا ينفعه هذا المال؟ هذا المال سيكون عليه حسرة ووبالا إلى يوم القيامة، بل إنه يعذَب به يوم القيامة.

وهذا كله -أيها الإخوة- بسبب النظرة غير الصحيحة للمال، بسبب سوء النظرة للمال، هذه النظرة غير السوية هي التي تتسبب في هذه المظاهر، وهذه القصص التي نسمعها والتي هي واقع نراه في المجتمع.

فينبغي -أيها الإخوة- أن يسعى المسلم في أن تكون نظرته صحيحة لهذا المال، ونظرته صحيحة لواقع الحياة الدنيا، وواقع عيشه في هذه الحياة، أن ينظر إلى ذلك النظرة الصحيحة الشرعية التي دلت لها نصوص الكتاب والسنة، وألا يعيش في واقع ونظرة غير سوية حتى لا تتصحح نظرته لها إلا بالموت، وعندما يلقى الله -عز وجل-، وحينئذ يندم حين لا ينفع الندم.