يقدم لكم موقع إقرأ في هذا المقال خطبة دينية عن الحياء ، و خطبة عن الحياء قصيرة ، و خطبة عن الحياء مكتوبة ، و خطبة عن الحياء ملتقى الخطباء ، إن الحياء خلق يبعث على فعل كل مليح وترك كل قبيح، فهو من صفات النفس المحمودة.. وهو رأس مكارم الأخلاق، وزينة الإيمان، وشعار الإسلام؛ كما في الحديث: «إن لكل دين خُلقًا، وخُلُقُ الإسلام الحياء» (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني). فالحياء دليل على الخير، وهو المخُبْر عن السلامة، والمجير من الذم. فيما يلي خطبة دينية عن الحياء.

خطبة دينية عن الحياء

خطبة دينية عن الحياء
خطبة دينية عن الحياء

الخُطْبَةُ الأُولَى

عِبَادَ اللهِ: مَا أَعْظَمَ هَذَا الدِّينَ وَمَا أطيبه! وَمَا أَعْدَلَهُ وَمَا أَشْمَلَهُ! وَمَا أَرْقَاهُ وَمَا أَفْضَلَهُ! مَا تَرَكَ خَيْرًا إِلاَّ حَثَّ عَلَيْهِ، وَلاَ شَرًّا إِلاَّ وَنَهَى عَنْهُ. وَمِنْ أَخْلاَقِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا، وَنَدَبَ إِلَيْهَا، وَنَهَى عَمَّا يُضَادُّهَا: اَلْحَيَاءُ. الَّذِي عَدَّهُ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ، فَالْمُؤْمِنُ يَتَّصِفُ بِالْحَيَاءِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللهِ، وَالْحَيَاءُ مِنْ خُلُقِهِ.

وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ، فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» فَقُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي، قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» رَوَاهُ الحَاكِمُ وغَيرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ، إِذَا لَمْ تَسْتَحِْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَالحَدِيثُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَينِ، وَكِلاَهُمَا حَسَنٌ وَحَقٌّ:

المَعْنَى الأَوَّلُ: وَهُوَ الأَظْهَرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الأَمْرَ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ لاَ يَسْتَلْزِمُ الْحَيَاءَ، وَلاَ يُوجِبُ الْحَيَاءَ، فَافْعَلْهُ وَلاَ حَرَجَ عَلَيْكَ.

إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي

وَلَم تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ

فَلاَ وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ

وَلاَ الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ

وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

المَعْنَى الثَّانِي: وَهُوَ بِأَنَّ الحَدِيثَ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ، فَإِذَا كُنْتَ لاَ تُبَالِي، وَلاَ تَخَافُ، وَلاَ تَخْشَى اللهَ وَلاَ خَلْقَهُ؛ فَافْعَلْ مَا تَشَاءُ، أَي: افْعَلْ مَا بَدَا لَكَ، فَإِنَّكَ سَتُعَاقَبُ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، وَلَيْسَ يَأْمُرُهُ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْنىَ الخَبَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: (من لَمْ يَسْتَحْيِ صَنَعَ مَا شَاءَ فَإِنَّ اللهَ مُجَازِيهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: «فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» – أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ أَمْرًا، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَهُ حَيَاءٌ يَحْجِزُهُ، وَيَكُفَّهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالقُبْحِ، فالْمُرَادُ بِهِ الدِّلاَلَةُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْحَيَاءِ يَدْعُو إِلَى الِاسْتِرْسَالِ الَّذِي لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسُوءَ عَاقِبَتُهُ، وَإِنَّ أَعْظَمَ الْمَوَانِعِ مِنَ الْقَبَائِحِ عِنْدَ الْعُقَلاَءِ الذَّمُّ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ عُقُوبَةِ الْبَدَنِ، فَمَنْ طَابَ نَفْسًا بِالذَّمِ وَلَمْ يَخْشَهُ فَلَمْ يَرْدَعْهُ عَنْ قَبِيحِ مَا هُوَ فاعل رَادِعٌ، فَلاَ يَلْبَثُ شَيْئًا حَتَّى يَرَى نَفْسَهُ مَهْتَوكَ السِّتْرِ مَثْلُوبَ الْعِرْضِ، ذَاهِبَ مَاءِ الْوَجْهِ، لاَ وَزْنَ لَهُ وَلاَ قَدْرَ، قَدْ أَلْحَقَهُ النَّاسُ بِالْبَهَائِمِ، وَأَدْخَلُوهُ فِي عِدَادِهَا؛ بَلْ صَارَ عِنْدَهُمْ أَسْوَأَ حَالاً مِنْهَا، فَنَبَّهَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَا فِي تَرْكِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنَ الضَّرَرِ؛ لِيَنْتَهِيَ عَنْهُ، وَيَسْتَشْعِرَ مِنَ الْحَيَاءِ مَا يَرْدَعُ عَنْ إِتْيَانِ الْقَبِيحِ، فَيُؤْمَنُ مَغَبَّتُهُ.

إِذَا قَلَّ مَاءُ الوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ *** وَلاَ خَيْرَ فِي وَجهٍ إِذَا قَلَّ مَاؤُهُ

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: فِيهِ الوُضُوءُ) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، فَلَقَدْ مَنَعَهُ الْحَيَاءُ مِنَ السُّؤَالِ لِأَنَّهُ زَوْجٌ لِابْنَتِهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَحْيِ مِنْ عُثْمَانَ وَيَقُولُ: «أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ؛ حَيْثُ كَانَ عُثْمَانُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – شَدِيدَ الْحَيَاءِ.

حَيَائِي حَافِظٌ لِي مَاءَ وَجْهِي

وَرِفْقِي فِي مُكَالَمَتِي رَفِيقِي

وَلَوْ أَنِّي سَمَحْتُ بِبَذْلِ وَجْهِي

لَكُنْتَ إِلَى الغِنَى سَهْلَ الطَّرِيقِ

أَلَا فَاسْتَحْيُوا، نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغُفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

عِبَادَ اللهِ: الْحَيَاءُ خُلُقٌ عَظِيمٌ، وَمَنْهَجُ قَوِيمٌ وَلَكِنْ هُنَاكَ مَنْ فَهِمَ الْحَيَاءَ فَهْمًا خَاطِئًا، فَإِذَا رَأَى مُنْكَرًا أَوْ خَطَئًا لَمْ يُنْكِرْهُ، وَلَمْ يُصَحِّحْهُ، وَيَتَذَرَّعُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّ دِافِعَهُ الْحَيَاءُ، وَهَذَا -وَرَبِّي- لَيْسَ مِنَ الْحَيَاءِ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ ضَعْفٌ، وَخَوَرٌ، وَقِلَّةُ إِيمَانٍ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لاَ يُنْكرُ الْمُنْكَرُ بِحُجَّةِ أَنَّ مَانِعَهُ الْحَيَاءُ، فَكَأَنْه يَصِفُ مَنْ يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ أَنَّهُ لاَ حَيَاءَ عِنْدَهُ؛ بَلْ وَكَأَنَّهُ يَرَى بِأَنَّ عَدَمَ إِنْكَارِهِ لِلْمُنْكَرِ يُعَدُّ فِعْلاً لِلْخَيْرِ لِإَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ»، فَهَلْ تَرْكُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ خَيْرٌ! لَا وَرَبِّي بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ.

عِبَادَ اللهِ: لِنَفْهَمْ الْحَيَاءَ بِحَسَبِ مَفْهُومِهِ الصَّحِيحِ، فَمِنَ الْحَيَاءِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي عَقْلِ كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ لاَ يَأْتِي إِلَى بُيُوتِ اللهِ بِمَلاَبِسَ يَسْتَحِيِي أَنْ يذْهَبَ بِهَا إِلَى عَمَلِهِ، أَوْ يُقَابِلَ بِهَا وُجَهَاءِ قَوْمِهِ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْحَيَاءِ المَحْمُودِ، تَوْقِيرَ الكِبَارِ؛ لِأَنَّنَا نَرَى فِي بَعْضِ الْمَنَاسَبَاتِ حِينَمَا يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ، يَتَسَابَقُ بَعْضُ الصِّغَارِ إِلَى الْمَوائِدِ وَلاَ يُبَالُونَ بِالْكِبَارِ، وَلاَ يَسْتَحْيُونَ.

كَمَا أَنَّ مِنَ الْحَيَاءِ المَحْمُودِ أَنْ يُؤْثِرَ الصِّغَارُ الكِبَارَ والإناث فِي الأَمَاكِنِ العَامَّةِ وَالْمُزْدَحِمَةِ، فَيُقَدِّمُونَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَلاَ يُسَابِقُوهُمْ فِي الْكَرَاسِي أَوِ الأَمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِكِبَارِ السِّنِّ أو النساء، كَمَا أَنَّ مِنَ الْحَيَاءِ المَحْمُودِ أَنْ يَخْضَعَ الطَّالِبُ لِمُعَلِّمِهِ، وَأَنْ لاَ يَسْبِقَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الصَّفِ، فَإِنَّ تَوْقِيرَ الْمُعَلِّمِ وَإِجْلاَلَهُ إِجلاَلاً لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ خُلُقٌ يَنْبَغِي أَنْ نَتَعَهَّدُهُ، وَنَتَربَّى عَلَيْهِ، يُورِثُهُ الكِبَارُ لِلصِّغَارِ، وَبَابُ الْحَيَاءِ بَابٌ وَاسِعٌ، تَكَلَّمَ عَنْهُ أَهْلُ العِلْمِ، وَفَصَّلُوا فِيهِ، رَزَقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ الْحَيَاءَ المَحْمُودَ، وَعَصَمَنَا مِنَ الزَّلَلِ.

خطبة عن الحياء قصيرة

الخطبة الأولى:

معاشر المؤمنين: هو خيرٌ كلُّه، وكلُّه خير، ولا يأتي إلاَّ بخير، هو خُلق من أخْلاق الملائكة، وسمة من سمات أنبياء الله المخلَصين، خُلق من أسمى الصِّفات الإنسانيَّة وألطفِها، وأنْبلِ الأخلاق الإسلاميَّة وأشرفِها، حسبُك إن كنتَ ذامًّا أحدًا، أن تَسْلُب منه هذا الخلق، خُلق داستْه وسائلُ الإعلام، واجْتثَّتْه من النفوس اجتثاثًا؛ إنَّه خلق الحياء.

إذا رأيتَ الرَّجل يَخْتنِق وجهُه، وتعلو وجنتيه الحمرةُ، فيتحرَّج عن فعل ما لا ينبغي له فعلُه، فاعلم أنَّه يَحمل بين جنبيْه شمعةَ الإيمان، وحياة الضَّمير، ونقاوة المعْدن، وسلامةَ الفطرة.

الحياء -عبادَ الله- تاج الأخلاق، وعنوان العفاف، ورمْز الوقار، يزيد الرُّجولةَ كمالاً، ويكسو المروءة جمالاً.

وإذا رُزِق العبد حياءً لازمتْه السُّمعة الطَّيِّبة، والذِّكرُ الحسن، فنُشرتْ مَحاسنه، ونُسيت مساوئه، وقديمًا قيل: “من كساه الحياء ثوبه، لم يَرَ الناسُ عَيْبه”.

هذا الخلق توارثَتْه النَّاس من أنبيائهم؛ فـ”إنَّ ممَّا أدرك النَّاس من كلام النبوَّة الأولى: إذا لَم تستح فاصنعْ ما شئت”.

وتناقلتِ الخليقة من كتب الحكمة الأولى: “إنَّ من الحياء وقارًا، وإنَّ من الحياء سكينة”.

وعرفت العرب في جاهليَّتها هذا الخلق، فكانوا ذوي مُروءة واستحياء، فهذا عنترة بن شداد، يغضُّ طرفه عن جارته حياءً، ويقول مفاخرًا:

وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَتْ لِي جَارَتِي *** حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

وهذا أبو سفيان قبْل إسلامه يسأله هرقل ملك الروم عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فأجابه بما علم من حال النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقال: “فوالله لولا الحياءُ من أن يأثروا عليَّ كذبًا، لكذبت عليه”.

ثمَّ جاء الإسلام، فأمر بالحياء وحثَّ عليه، وحضَّ الناس على لزومه والتخلُّق به، جاء في الحديث الصحيح: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “ما كان الفحش في شيء إلاَّ شانه، وما كان الحياء في شيء إلاَّ زانه”. أخرجه الترمذي وغيره.

ومرَّ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- برجُل يعظ أخاه في الحياء، فقال: “دعْه؛ فإنَّ الحياء من الإيمان”.

ومدح نبيُّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- موسى -عليْه السَّلام- بأنه كان رجلاً حييًّا ستِّيرًا.

وفي محكم التَّنزيل، قصَّ علينا ربُّنا خبر تلك المرأة الصَّالحة مع نبي الله موسى -عليه السلام- التي مشت إليْه بخطوات، لا إغواء فيها ولا إغراء، وحادثتْه بكلمات معدودات، لا خضوع فيها ولا تميُّع؛ قال تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص:25].

أمَّا قدوتنا وحبيبُنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقد تسنَّم صُوَرَ الحياء في أعلى قاماتها، فكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- أشدَّ حياءً من العذْراء في خِدْرها، كان إذا كرِه شيئًا عُرِف ذلك في وجهه، بل بلغ من حيائه واستحيائه أنَّه كان يتحرَّج أن يُشعر زوَّارَه والمستأنسين بمجلسه بأنَّه قد طال جلوسهم عنده وحديثهم معه، فأنزل الله سبحانه: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ) [الأحزاب:53].

هذا الخلق النبوي والحياء المحمَّدي انعكس أثره على صحابته -رضي الله عنهم-؛ فهذا عثمان -رضي الله عنه- بلغ من حيائه أنَّه ما كان يتعرَّى حتَّى في حال اغتساله، حتَّى استحتْ من حيائه الملائكة، كما أخبر عنْه النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

واسمع لشيءٍ من حياء أمِّنا أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حين قالت: “كنتُ أدخل بيتي الذي دفن فيه رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأبي، فأضع ثيابي فأقول: إنَّما هو زوْجي وأبِي، فلمَّا دُفِن عمر -رضي الله عنْه- فوالله ما دخلت إلاَّ وأنا مشدودةٌ عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر”. رضي الله عنها وأرضاها.

هذا الحياء والاستحياء في عهْد سلفنا الصَّالح كان مظهرًا عامًّا، وثقافة للمجتمع كله، مرَّ عمر -رضي الله عنْه- ليلة فسمع امرأة تُنْشِد فتقول:

تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهْ *** وَأَرَّقَنِي أَنْ لا خَلِيلَ أُلاعِبُهْ

فَوَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ *** لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ

مَخَافَةَ رَبِّي وَالحَيَاءُ يَصُونُنِي *** وَأُكْرِمُ بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ

إخوة الإيمان: وأعلى منازل الحياء، وأجلّ صوَرِه، أن يستحييَ العبد من ربِّه تعالى، أن يستحيي العبدُ من ربِّه حقَّ الحياء، فيحفظَ الرَّأس وما وعى، والبطن وما حوى، أن يستحْيي المرء من خالقه أن يراه حيث نهاه، أو أن يفقده حيث أمره، أن يستحيي الإنسان من ربِّه الَّذي خلقه فسوَّاه، ومن كلّ نعمةٍ أسبغ عليه وأعطاه، ولطريق الهدى وفَّقه وهداه.

وإن تعجبْ فعجب من أُناسٍ يستحْيون من المخلوق، ولا يستحْيون من الخالق، يستحْيون من فعْل السوء وقولِه أمام النَّاس، وإذا غابوا عن أعيُن مَن يعرفون، أو كانوا في الخلوات، ظهر الفجور، وبدت المعاصي، وانكشف المغطَّى، وتعدَّوا حرمات الله، وانتهكوا حدود الله، وحالهم كمَن قال الله فيهم: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) [النساء:108]، وفي الحديث: “اللهُ أحقُّ أن يُستحيا منه”.

كان الإمام أحمد كثيرًا ما يردِّد قول الشَّاعر:

إِذَا مَا قَالَ لِي رَبِّي *** أَمَا اسْتَحْيَيْتَ تَعْصِينِي

وَتُخْفِي الذَّنْبَ مِنْ خَلْقِي *** وَبِالعِصْيَانِ تَأْتِينِي

فَمَا قَوْلِي لَهُ لَمَّا *** يُعَاتِبُنِي وَيُقْصِينِي

إخوة الإيمان: حينما يسودُ الحياء خُلقَ المجتمع، فإنَّه يزيد ترابط أهله، ويعزِّز لُحْمَتهم، ويقوِّي أُلْفَتهم، ويسوقهم إلى ذُرا المجْد والكرامة، فيُوقَّر الكبير، ويحتَرم أهلُ الفضل، وتُصان الحرمات، ويُترفَّع عن السفاسف والرَّذائل، فيزداد المجتمع بذلك أمنًا وأمانًا، وخيرًا وصلاحًا، وصَدَق الصَّادق المصدوق: “الحياء كله خير، والحياء لا يأتي إلا بخير”.

وحينما يغيب الحياء عن المجتمع، فكبِّر على الأخلاق بعده أربعًا، إذا انسلخ المرْء من حيائه، فليس له من إنسانيَّته إلاَّ اللَّحمُ والدَّم.

إذا ضعف الحياء، قلَّتِ المروءة، ورقَّ الدِّين، واضمحلَّت الرجولة، وخفَّت العفَّة.

فيوم نُزِع الحياء، رأيْنا من شبابِنا مَن يعاكس النساء، ويهتك حرمات الآخَرين، وإنَّ الله يغار، وغَيْرة الله أن تُنتهك محارمه.

يوم غاب الحياء، رأيْنا المرأة تُصافِح الرَّجُل وتُمازحُه، وتُضاحكه وتُجالسه.

يوم ضاع الحياء، رأيْنا الرَّجُل يلبس لِبسة المرْأة، والمرأة تلبَس لبسة الرَّجُل.

يوم مُزِّق الحياء، رأيْنا أشباه الرجال يرقُصُون رقْصَةَ الإناث، بلا حياء من خالقٍ، أو خجل من مخلوق.

ويوم فُقِد الحياء، أصبحت المجاهرة بالمعاصي مفخرةً يُتباهى بها، فهذا يفخر بعلاقاتِه مع الجنس الآخر، وآخَر يَتباهى بما يشاهده من أفلام ومناظرَ مشينة، وثالثٌ يتبجَّح بنزع حجاب بناتِه خارج بلاده.

فَلا وَاللَّهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ *** وَلا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ

يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ *** وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

قلَّة الحياء، نتيجتُها ونهايتها وقاحة وسفالة ورذالة وبذاءة، قليل الحياء لا يأْبَه بسفول قَدْره، ولا يأنف من لصوق فعْلةِ السوء على شخصه:

إِذَا رُزِقَ الفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا *** تَقَلَّبَ فِي الأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ

عباد الله: إنَّ الحديث عن خلُق الحياء ليتأكَّد في هذا العصْر، الَّذي تحارَب فيه الأمَّة في أخلاقها حربًا لا هوادةَ فيها، قنوات تصبِّح النَّاس وتمسيهم ببرامج ومشاهدَ تدمِّر الأخلاق، وتمزِّق الحياء، وتطبِّع الرَّذيلة، وتغرِّب المجتمع في سلوكه وأخلاقيَّاته، وطبعه وعاداته، ثمَّ لا تسَلْ بعد ذلك عن هُموم شبابِنا واهتِماماتهم، وثقافة أبنائِنا وسطحيَّة أفكارهم.

فواجب -عبادَ الله- على أهْل الإيمان والغيرة، والرُّجولة والمروءة، أن يهذِّبوا أنفسهم بهذا الخُلُق النبيل، ويسْعَوا في تربية أولادِهِم -ذُكورِهم وإناثِهم- على هذا المعْدن الأصيل، مع تأْكيد المجتمع دائمًا على ثقافة الحياء والاستِحْياء، والحرص على عدم نشْر السُّوء والفحْشاء، والتَّوفيق كلّ التَّوفيق من ربِّ الأرض والسَّماوات.

أقول ما سمعْتُم، وأستغْفِر الله ربِّي وربَّكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئة فاستغْفِروه.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله على إحْسانه، والشُّكر له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الدَّاعي إلى رضْوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحْبِه وإخوانه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:

فيا إخوة الإيمان: نعيش في هذه الأيَّام تقلُّباتٍ مُناخيةً، وتغيُّرات معيشيَّة، من تتابع الأتْربة ودوامها، وقلَّة الأمطار، وغلاء الأسعار، وانتشار السَّرقات، والسَّطو علانيةً على الممتلكات، مع كثرة الهموم، وضيق الصدور، الَّتي تكدِّر على المرء عيشَه، وتنغِّص عليْه حياتَه.

عباد الله: إنَّ من ضَعف اليقين وغفْلة القلب أن ننظُر إلى هذه التقلُّبات المناخيَّة والتغيُّرات المعيشيَّة على أنَّها ظواهرُ مادية، لا علاقة لها بأعمال النَّاس وأفعالهم، وننسى أو نتناسى حقيقة قرْآنيَّة، وهي أنَّ هذه الظواهر ما أوجدها وأحْدثها إلاَّ ربُّها، وأنه سبحانه قد جعل لكلِّ شيءٍ سببًا، فما هذه البلايا المتعدِّدة، وما هذه المصائب المتجدِّدة، إلاَّ بعضٌ مما كسبت أيدينا؛ قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقال تعالى: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

عباد الله: إن تحدَّثنا عن معاصينا ومنكراتِنا الَّتي فشَتْ فينا حتَّى نسيَتها النفوس ولَم تستوْحِشها، فلا ندري والله من أين نبدأ؟! هل نبدأ بالصلاة المكتوبة، الَّتي خفَّ ميزانها عند كثير من المسلمين -إلاَّ ما رحم ربي-؟! أم نتكلم عن الزَّكاة المفروضة، الَّتي كنزها البعض ولم يراعوا حقَّ الله فيها؟! أم نتحدث عن قطيعة الرَّحم وعقوق الوالدين، ونهش أعراض المسلمين؟! أم نتذكَّر تهافت النَّاس على المعاملات المحرَّمة، وتسابقهم لجمع المال من أي وجه كان؟! أم نستذكر مخطَّطات عباد الهوى على المرأة المسلمة، ومحاولاتهم المستديمة على إفسادها بشتَّى الوسائل؟! أم نتكلَّم عن مصيبتنا في برود أحاسيسنا، وقلة ناصحينا؟! أم طوفان المنكرات الهائل؟!

لقد كثرت ذنوبنا وتعدَّدت، وتلوَّثت معاصينا وتكرَّرت، فلم ندر والله من أين نؤتى؟!

لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللَّهِ حَتَّى تَكَاثَرَتْ *** ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ

فيا عباد الله: هذه نذُر الله تستعْتِبُكم، فتوبوا إلى الله واستغفروه، تُوبوا إلى الله جميعًا -أيُّها المؤمنون- لعلكم تفلحون.

استعيذوا بالله من قسْوة القلوب وموت الضَّمائر، الَّذين لا يتَّعظون بالمصائب والمثُلاث؛ قال تعالى: (فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43].

فاللهَ اللهَ -عبادَ الله- في إصلاح الحال، والمسارعة في تغيير الفعال، والثَّباتَ الثَّبات على الطَّاعة ولزوم الاستِقامة، فلا تدري -يا عبد الله- متى تأتيك منيَّتك؟! وما تدري -يا عبد الله– متى يحتنّ حينُك؟! (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34].

عباد الله: صلُّوا بعد ذلك على مَن بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة وتركها على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها.

اللَّهُمَّ صلّ على محمَّد وعلى آل محمَّد…

قد يهمك:

خطبة عن الحياء مكتوبة

الخطبة الأولى

أما بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيُّها المسلمون، إنّ الدين الإسلاميّ الحنيف جاء داعيًا ومتممًا لمكارم الأخلاق، فالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أكْملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهُم خلقًا)، فالإيمان والخلق الحسن أمران متلازمان؛ إذ إنَّ الأخلاق الحميدة مكمّلة ومعظمة للإيمان، والخلق الحسن يتقّل الميزان، ويرفع العبد المؤمن إلى درجات الكمال، ومن الأخلاق الإسلامية التي دعا إليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وجعلها مقرونة بإيمان العبد خلق الحياء.

فالحياء أيها الأفاضل خلقٌ فضيل؛ وهو يكون عند الإنسان بقدر الإيمان في قلبه، فإذا رُفع عن أحد الحياء نقص ذلك من إيمانه، وينقص من إيمانه بمقدار الحياء الذي يُرفع عنه؛ فقد روى ابن عمر عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إنّه قال: (إنَّ الحياءَ والإيمانَ قُرِنَا جميعًا، فإذا رُفِعَ أحدُهما رُفِعَ الآخرُ)، وللحياء درجة تميزه عن بقية الأخلاق الحسنة، كما أنَّ الحياء خُلق الإسلام، فكيف لا يكون ذو فضل عظيم، ودرجة محمودة بعد كل ذلك.

وقال ابن القيم -رحمه الله- مبينًا فضل الحياء وأهميته: “الحياء أصلٌ لكل خير، وهو أفضل وأَجَلّ الأخلاق، وأعظمها قَدْرًا، وأكثرها نفعًا، ولولا هذا الخلق لم يُوفَ بالوعد، ولم تُؤَدَّ الأمانةُ، ولم تُقْضَ لأحد حاجة، ولا تحرَّى الرجل الجميل فآثره، والقبيح فتجنبه، ولا سُتِرَ له عورة، ولا امتنع عن فاحشة، وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤدِّ شيئاً من الأمور المفتَرَضة عليه، ولم يَرْعَ لمخلوق حقًّا، ولم يَصِلْ له رَحِمًا، ولا بر له والدًا”.

ويُعرّف الحياء على أنّه شعور يتولد في النفس يمنعها من الوقوع فيما لا يليق بها، وهو من الأخلاق التي أولاها الدين الإسلاميّ أهمية كبيرة، واعلموا إخوتي الكرام أن الحياء المحمود فيه اعتدال؛ فلا يكون كثيرًا في النفس لدرجة تجعل الإنسان يترك الأمور التي لا بأس بها؛ بل يكون في منع النفس من ارتكاب ما لا يليق بها وحسب، وبحسب المسلم أن يعلم أن الحياء ميزان لعفة النفس وعفافها ورشدها؛ فقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ ممَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ، إذا لَمْ تَسْتَحْيِ فاصْنَعْ ما شِئْتَ).

أيّها الناس، إنّ للحياء فضلٌ عظيم، وقد جاء فضله في العديد في أحاديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ومنها : (الحَياءُ لا يَأْتي إلَّا بخَيْرٍ، فقالَ بُشيرُ بنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ في الحِكْمَةِ: إنَّ مِنَ الحَياءِ وَقارًا، وإنَّ مِنَ الحَياءِ سَكِينَةً، فقالَ له عِمْرانُ: أُحَدِّثُكَ عن رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وتُحَدِّثُنِي عن صَحِيفَتِك)، وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (الحياءُ من الإيمانِ، والإيمانُ في الجنةِ، والبَذاءُ من الجفاءِ، والجفاءُ في النارِ”،وقال: “سَمِعَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- رَجُلًا يَعِظُ أخاهُ في الحَياءِ، فقالَ: الحَياءُ مِنَ الإيمانِ).

ومن السلف الصالح من أدرك أهمية الحياء؛ فقال ابن الأثير -رحمه الله-: “جُعل الحياء -وهو غريزة- من الإيمان، وهو اكتساب؛ لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم تكن له تقية- أي مانع-، فصار كالإيمان الذي يقطع بين العاصي والمعصية، وإنما جُعل الحياء بعض الإيمان لأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله، وانتهاء عما نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعضَ الإيمان”.

عباد الله، إنّ للحياء قيمة كبيرة وقدر عظيم؛ وهو بمثابة رقابة ذاتية توجد في داخل الإنسان وتتحكم في سلوكياته، وتحثه على كل فعلٍ حسن، وتبعده عن كل فعل قبيح، والحياء شعار الإسلام، وسمة لباقي الأديان، وعلامةٌ للإيمان، ونورٌ يُزين وجوه من هداهم الرحمن، وهو شعبة من الإيمان، وطريق لنيل الجنان.

أيّها المسلمون، إنّ للحياء نوعان؛ حياء محمود وهو ما حثّت الشريعة الإسلاميّة عليه، وحياء مذموم، ومن صور الحياء المحمود:

  • الحياء من الله -تعالى-: ويكون ذلك باستشعار مراقبة الله لك في حياتك كلها، فما أجمل أن يمتنع العبد عن الوقوع في المعصية حياءً من الله وخشيةً منه، ويكون الحياء من الله بعدم ترك الواجبات التي أمر بها، وعدم فعل المنكرات التي نهى عنها.
  • الحياء من الملائكة: ويكون الحياء من الملائكة باستشعار وجودهم ومرافقتهم لنا في كل وقت، فيكون المسلم عالمًا بأنّ الملائكة لا تفارقه إلا في الأماكن التي لا تدخلها.
  • الحياء من الناس: ويكون الحياء من الناس بعدم إيذائهم أو إلحاق الضرر بهم، لا بقول ولا بفعل، ولا يتعمد المرء مراقبتهم أو الاطلاع على خصوصياتهم وعوراتِهم، ولا شك أن هذا النوع من الحياء دليل على مروءة المسلم.
  • الحياء من النفس: وهذا لا يظهر إلا في خلوة الإنسان، فيظهر إذا كان الإنسان وحيدًا، لا رقيب عليه إلا نفسه، فيستحي من أن يخذلها بفعل ذنب أو معصية، وهذا الحياء هو جوهر حياء الإنسان من الله تعالى.
  • الحياء من الوالدين: ويكون ذلك بالإحسان إليهما، وطاعتهما بالمعروف، وبحفظ الجميل الذي يسديه الوالدين لأبنائهم.
  • الحياء من الضيف: وذلك بإكرامه، وحُسن ضيافته، ولقائه اللقاء الطيب.

كما أبُّين لكم أيها الكرام بعضاً من صور الحياء المذموم:

  • الحياء في طلب العلم: إذ يكون عندها الحياء حائلًا بين فهم المرء لتعاليم الإسلام وسؤاله عنها، ومن المعلوم أنه يجب على المسلم تعلم أمور دينه من غير حرج، فطلب العلم، والحرص على فهم التعاليم الإسلاميّة، فهي سبيلٌ في الدعوة إلى دين الله -تعالى-، وقد ورد أن أبا موسى الأشعري -رضى الله عنه- قال لعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-: (إنِّي أُرِيدُ أنْ أسْأَلَكِ عن شيءٍ وإنِّي أسْتَحْيِيكِ، فقالَتْ: لا تَسْتَحْيِي أنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سائِلًا عنْه أُمَّكَ الَّتي ولَدَتْكَ، فإنَّما أنا أُمُّكَ، قُلتُ: فَما يُوجِبُ الغُسْلَ؟ قالَتْ علَى الخَبِيرِ سَقَطْتَ، قالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: إذا جَلَسَ بيْنَ شُعَبِها الأرْبَعِ ومَسَّ الخِتانُ الخِتانَ فقَدْ وجَبَ الغُسْلُ).
  • الحياء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فلا يجب أن يكون الحياء عند المسلم سبب في عدم أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب خيرية الأمة، وكان حبيب الله -صلّى الله عليه وسلّم- أشد الناس حياءً ومع ذلك لم يترك الأمر بالمعروف يومًا، ولم يخشَ من النهي عن المنكر، ولم يقبل الشفاعة في حدود الله، ولم يمنعه الحياء من رفض طلب أسامة بن زيد عندما طلب منه الشفاعة في حدود الله بل وقال له -صلّى الله عليه وسلّم-: (أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
  • الحياء بفعل أمور نهى عنها الشارع، أو بترك أمورٍ رغب بها: كمن يترك صلاته المفروضة بسبب ضيوف أتوه في وقت الصلاة، أو من يترك حقًا من حقوقه حياءً من الناس.

لذا فلنحرص أيّها الأفاضل على التّمثل بالحياء المحمود ما استطعنا، ولنترك كل صور الحياء المذموم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدوان إلَّا على الظَّالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله، إنّ الحياء خلق رفيع، وهو منهج سوي وينبغي على المسلم أن يعلم كيف يوظفه في حياته، فلا يكون حياؤه ضعفًا وقلة إيمان، ولا يترك بسببه المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنَّه لا يخالف شرع الله بهذه الحجة، بل يجب فهم الحياء بمعناه الصحيح، وتطبيق جكيع صوره المحمودة.

أيها الموحدون، من الحياء ألا يرتدي المسلم لباسًا لا يناسبه؛ إذ يجدر بالمسلم انتقاء الملابس التي يصلح أن يقابل بها الناس، ومن الحياء أيضًا توقير الكبار واحترامهم، ومراعاة الأطفال، والحرص على عدم مزاحمة الإناث في الأماكن العامة، فالحياء خلق عظيم يجب أن يظهر في حياة المسلم كلها، وأن يُنشى المسلم أبناءه ويُربيهم عليه، وألا يتركه في أمره كلّه.

خطبة عن الحياء ملتقى الخطباء

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله ذي الفضل والإحسان، جعَل الحياءَ شُعْبَةً من شُعَب الإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحْمَنِ: 29]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجانّ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين بإحسان.

أما بعد: معاشر المؤمنين: اتقوا الله -تعالى- واستحيوا منه حقَّ الحياء، واعلموا أنه رقيب عليكم أينما كنتم، يسمع سبحانه ويرى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102].

أمة الإسلام: لقد كانت الدعوة إلى مكارم الأخلاق من أهم مقاصد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي مسند الإمام أحمد بسند صحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ“، وحُسْن الخلق والإيمان متلازمان؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا” (رواه أبو داود في سننه بسند صحيح)؛ فالإيمان -يا عباد الله- يَعْظُم ويَكْمُل بِحُسْن الأخلاق وكمالها.

وحُسْن الخلق يثقِّل الموازين، ويزيد في إيمان العبد حتى يصل إلى مراتب الكمال، ومن الأخلاق الفاضلة التي قُرِنَتْ بالإيمان خُلُق الحياء، فإذا رُفِعَ الحياء عن الإنسان نقص من إيمانه بقدر ذلك، ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ”، وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- مزيةَ للحياء على سائر الأخلاق فقال: “إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ” (رواه ابن ماجه بسند حَسَن).

فما كان الحياء في شيء إلا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه، قال ابن القيم -رحمه الله-: “الحياء أصل لكل خير، وهو أفضل وأَجَلّ الأخلاق، وأعظمها قَدْرًا، وأكثرها نفعًا، ولولا هذا الخلق لم يُوفَ بالوعد، ولم تُؤَدَّ الأمانةُ، ولم تُقْضَ لأحد حاجة، ولا تحرَّى الرجل الجميل فآثره، والقبيح فتجنبه، ولا سُتِرَ له عورة، ولا امتنع عن فاحشة، وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤدّ شيئا من الأمور المفتَرَضة عليه، ولم يَرْعَ لمخلوق حقًّا، ولم يَصِلْ له رَحِمًا، ولا بر له والدا” انتهى كلامه -رحمه الله-.

والحياء -يا عباد الله- هو خلق الأنبياء والمرسلين ومن سار على نهجهم من الصحابة والتابعين، فهذا موسى -عليه السلام- قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ” (رواه البخاري).

وأما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقد تسنَّم أعلى مقامات الحياء؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرِهَا، وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه؛ أي: إذا كَرِهَ شيئًا لا يتكلم به لحيائه، بل يتغير وجهه، فيفهم الصحابة كراهته لذلك.

وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضَتِهَا؟ قَالَ: فَذَكَرَتْ أَنَّهُ عَلَّمَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ. ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ تَتَطَهَّرُ بِهَا. قَالَتْ الْمَرْأَةُ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟  فاستحيا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعرض بوجهه وقال: “تَطَهَّرِي بِهَا سُبْحَانَ اللهِ” قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فأخذتُها فَجَذَبْتُهَا فأخبرتها بما يريد النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-“.

وكان -صلى الله عليه وسلم- يتحرج بأن يُشْعِرَ زوارَه والمستأنسينَ بمجلسه بأنهم قد طال جلوسُهم عنده وحديثهم في بيته، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) [الْأَحْزَابِ: 53].

وَمَرَّ صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنكَ لتستحيي حتى كأنه يقول: قد أَضَرَّ بكَ؛ أي الحياءُ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ” (رواه البخاري)؛ فلذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- وأرضاهم يعزِّزُونَ في نفوس أبنائهم خُلُقَ الحياء ويربونهم عليه كما رباهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك؛ فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان غلاما في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: “إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟” قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “هِيَ النَّخْلَةُ“. (رواه البخاري ومسلم).

والحياء فوق ذلك كله، هو صفة للرَّبّ -جل جلاله- وتقدست أسماؤه، وحياء الرب -تبارك وتعالى- حياءُ جُودٍ وكرمٍ، وبِرّ وجلال، فإنه -سبحانه- حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صِفْرًا خائبتين، ويستحيي أن يعذِّب ذا شيبة شابت في الإسلام، وفي الأثر يقول الرب -جل جلاله-: “مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي؛ يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي“.

فالمسلم الصادق -يا عباد الله- يستحيي مِنْ نَظَرِ الخالقِ إليه؛ فلا يتأخر في الطاعة ولا ينسى شكرَ نعمة، ولا يراه حيث نهاه، ولا يفتقده حيث أمره؛ فالله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- أحقّ أن يُستحيا منه؛ ولذلك أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه؛ ففي معجم الطبراني أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: “أَوْصِنِي. قَالَ: أُوصِيَك أَنْ تَسْتَحْيِيَ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي رَجُلًا صَالِحًا مِنْ قَوْمِكَ“، وفي جامع الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ” . قَالُوا: إِنَّا لَنَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: “لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ” فبيَّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم أمورا أربعة فيها جِمَاع الخير كله: أن تحفظ الرأس وما وعى، فلا تسجد لغير الله ولا ترفع هذا الرأس تكبرا على خَلْق الله.

ويدخل في ذلك حفظ السمع والبصر واللسان مما حرم الواحد الديان: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الْإِسْرَاءِ: 36]، وأن تحفظ البطن عن أكل الحرام وما اتصل به من القلب واليدين والفرج والرجلين؛ ففي صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ“، وكلما كان القلب مليئا بالحياء من الله بعثه حياؤه على حفظ رأسه وبطنه عما حرم الله -تعالى-، ثم ذكر -صلى الله عليه وسلم- أمرين عظيمين فقال: “وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا” فمن تذكر أنه سيموت ويبلى وسيقف بين يدي الله -جل وعلا- وأن الله سيحاسبه يوم القيامة على ما قدَّم في هذه الحياة الدنيا استحيا من الله حقَّ الحياء من أن يلقاه يوم القيامة بأعمال سيئة مشينة.

حضَر الموتُ أحدَ التابعين فأخذ يبكي بكاء شديدا، فلما عوتب في ذلك قال: “والله لو أُتِيتُ بالمغفرة من الله -عز وجل- لأهمَّني الحياءُ منه مما قد صنعتُ؛ إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه”.

معاشر المؤمنين: إن الحياء دليل على رجاحة العقل، وهو أدب في التعامل مع الخلق، وطريق خير وصلاح، وسعادة وفلَاح في الدنيا والآخرة، الحياء شعار المتقين، ودثار الصالحين وجلباب ستر الله على عباده المؤمنين، ولكن إذا أصر العبد على الذنوب والمعاصي ولم يسلك طريق التوبة نزع منه الحياء ومن نزع حياؤه حل هلاكه فتمادى في تحصيل شهواته، وظهرت مساوئه ودُفنت محاسنه وكان عند الله مهانا؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: “الحياء مشتَقّ من الحياة؛ فمن لا حياء له فهو ميت في الدنيا، شقيّ في الآخرة، فبين الذنوب وقلة الحياء وعدم الغيرة تلازم، فكل منها يستدعي الآخَر ويطلبه، ومن استحيا من الله عند معصيته استحيا الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستحي من الله -تعالى- ومن معصيته لم يستحي الله من عقوبته.

أمة الإسلام: إن من مظاهر نقص الحياء: انتشار الألفاظ النابية، والتصرفات المشينة، وتَشَبُّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والكذب والتضليل، وعدم احترام مشاعر الآخرين وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي يجب أن يُرَاعى فيها ما يُرَاعى في غيرها من التزام الآداب والأخلاق ومراعاة الأعراف.

ومن أعظم مظاهر نقص الحياء: المجاهرة بالذنوب والمعاصي؛ فهي سبب لعدم العافية في الدنيا والآخرة، ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى -أي: يوم القيامة- إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ“.

فَلَا وَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ***وَلَا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ***وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

ثم اعلموا معاشر المؤمنين أن الذي يحرك في القلب الحياء من الله -جل جلاله- أمور ثلاثة: تعظيم الله وحبه والعلم برؤيته واطلاعه، فمتى كان القلب معظِّمًا لربه محبًّا له -سبحانه- عَالِمًا باطلاعه ورؤيته وأنه لا تَخْفَى عليه خافيةٌ تحرَّك القلبُ حياءً من الله -جل جلاله-، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آلِ عِمْرَانَ: 164].

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفارا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي سبَّحت الكائنات بحمده، وعنَت الوجوهُ لعظمته ومجده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، -صلى الله عليه وسلم- وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: معاشر المؤمنين: إذا كان الحياء في الرجال مروءة وأخلاقا فإنه يكون في حق النساء زينة وجمالا، ومزية وكمالا، وهن أَوْلَى به من الرجال، وقد خلَّد اللهُ في كتابه الكريم خبرَ تلك المرأة مع نبي الله موسى -عليه السلام- وحياءها، وحُسْن صنيعها حيث مشت إليه بخطوات لا تبذُّل فيها، وتحدثت بكلمات معدودات لا خضوع فيها (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [الْقَصَصِ: 25].

وفي صحيح البخاري: جاءت أم سليم -رضي الله عنها- وأرضاها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألته عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فغطَّت أُمُّ سلمة وجهها وقالت: “تربت يداك يا أم سليم فضحت النساء عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“، انظروا -يا عباد الله- كيف غلَب الحياءُ أُمَّ سلمةَ -رضي الله عنها- وأرضاها حتى غطت وجهها وليس في المجلس إلا زوجها وامرأة مثلها.

معاشر المؤمنين: حينما يَسُودُ الحياءُ في المجتمع المسلم فإنه يرتفع بأخلاق أفراده، ويسمو بآدابهم، ويشيع بينهم الخصال الكريمة والفضائل الحميدة، ولا يأتي عليهم إلا بخير؛ ففي (صحيح مسلم): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ” و: “الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ“.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنا، رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، برحمتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك بفضلك ومنتك وجودك وكرمك أن تحفظ بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ بلاد الحرمين، اللهم احفظ بلاد الحرمين، اللهم احفظها بحفظك واكلأها بعنايتك ورعايتك، اللهم أدم أمنها ورخاءها واستقرراها برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فاجعل تدبيره تدميرا عليه يا قوي يا عزيز يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفق خادم الحرمين لما تحبه وترضاه، وَاجْزِهِ عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم اجمع به كلمة المسلمين، اللهم وَفِّقْهُ ووليَّ عهده لما فيه خير للبلاد والعباد. اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم أيدهم بتأييدك واحفظ بحفظ، اللهم سدد رميهم وثبت أقدامهم، اللهم كن لهم معينا ونصيرا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك وفضلك وجودك يا رب العالمين.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصَّافَّاتِ: 180-182].